بندر الزهراني

إنما حصانة الأمم في أخلاقها

الأربعاء - 11 أكتوبر 2023

Wed - 11 Oct 2023

يعتب عليّ بعض من الزملاء أن أغلب ما أكتبه من مقالات أو أتناوله في المحاضرات والمداخلات تكون موضوعاتها جادة وموجهة لفئة معينة من القراء والمتابعين، وتناقش إما أوضاع أكاديمية تخص الجامعات أو فلسفية لها علاقة بالعلوم والتخصص الدقيق، وكلامهم هذا صحيح إلى حد ما، والسبب في هذا أن الجو الذي عادة ما أحيط به نفسي هو في غالبه جو أكاديمي صرف، وله اهتمامات بالجوانب العلمية البحثية والأكاديمية التنظيرية.

ربما لو كنت أعمل رئيسا لبلدية منطقة ما أو موظفا فيها، وأقابل الناس على مختلف أطيافهم الفكرية والثقافية، وأقضي مصالحهم الحياتية، وأتجول معهم وبينهم ميدانيا وبشكل شبه يومي، لكتبت على سبيل المثال يوميات قصصية أسجل فيها إيجابيات مجتمعية أو أعالج من خلالها بعض السلبيات هنا وهناك، أو ربما في لحظات تجل عالية فقدت أعصابي -لا سمح الله- وكتبت فلسفة رفيعة راقية مثلما كان يفعل الأستاذ إبراهيم البليهي.

وفي ظل هذا العتب الممزوج بالمحبة، أقترح علي أحد الزملاء من ذوي الشاعرية المفرطة أن أكتب «نزاريات» أضمنها مزيجا من العقل والعاطفة، على الأقل كي أخرج نفسي من هذا القمقم الأكاديمي الذي ابتلينا به، فقلت نعم الاقتراح!، ولكن كيف لي أن أكتب نزاريات وأنا أنا؟! ليست نرجسية ولا (مغيالومانيا) ولله الحمد، ولكن معلوم أن نزار في الثلث الأخير من حياته تلبس عاطفة المرأة تلبسا عجيبا وتحدث بلسانها في قصائده أكثر وأبلغ مما لو كان هو مكانها! وبالطبع لا يمكن أن تجد شعرا جميلا رقيقا وساحرا، تستهويك مفرداته وأخيلته كشعر نزار، ولا يبلغ ذروة هذا الفن إلا نزار نفسه، وما تعلمته أنا وما ينبغي لي!

الشعراء على مختلف منطلقاتهم الفكرية ونوازعهم العاطفية من أكثر الناس بعد الفلاسفة تعظيما للعقل وركونا إليه، وقد قاد بعضهم -والعياذ بالله- إلى تقديسه ومن ثم إلى الإلحاد والاعتراض على الشرع، ولو أن عظمة العقل وعظمة القلب كانتا متوازنتين في آن واحد معا، أو بشكل تبادلي لربما خلق هذا النوع من التوازن حالة من التميز فريدة، فلا إفراط في تعظيم وتقديس العقل، ولا تفريط في إعماله بشكل ما يطور الفكر ويخدم أغراضه.

وكما أن للعقل والعاطفة فلسفة فإن للفعل فلسفة أيضا، ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، إلا أن عموم الفلاسفة فصلوا بينها، واستعلى بعضهم بالعقل على الفعل وانحازوا له، وبقي الإنسان البسيط يفلسف أفعاله حسب واقعه وظروف حياته، وإذا ما نظرنا لموضوعات فلسفة العقل والعاطفة والفعل فهي موضوعات فلسفية عميقة، جمعها الله عز وجل في قوله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها).

قبل سنوات حضرت محاضرة لأحد الأساتذة في أمريكا، من أصول هندية، حائز على درجة الدكتوراه في الفيزياء وثانية في الرياضيات وثالثة في الإحصاء، له عقل حصيف ومنطق عجيب، كانت محاضرته عن نظرية وجود الإله وتفرده بالألوهية، المحاضرة كانت مثيرة كعنوانها، كان يتحدث في جمع من المتخصصين بلغة رياضية بحتة، لم يتطرق فيها لنصوص دينية إطلاقا، ولم يستشهد بآراء علماء الدين، أعجبني كلامه لدرجة أنني ظننته من المعتزلة الجدد!

ولما انتهى من محاضرته ذهبت إليه وتحدثت معه عن موضوع المحاضرة، وقلت له: نحن المسلمين نؤمن بما توصلت إليه دون كل هذا العناء والجهد العلمي الرائع، ففاجأني برده حينما بدأ يتلو باللغة العربية قول الله تعالى (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)، فسألته هل أنت مسلم؟ قال: لا، ولكن أمام هذه النصوص العظيمة لا يمكن لأي عاقل إلا أن يؤمن بها، تصوروا أنه كان في فترة من فترات حياته ملحدا ثم بوذيا، وقبل أن يموت بأشهر قليلة قام بأجرأ عملية تحول جنسي، وتحول إلى أنثى! لم يهده العقل إلى قبول النقل والإيمان به فمات كالحيوان بل أضل سبيلا.

الحديث عن موضوع الإيمان بالله، واستحضار بعض آراء وأقوال الفلاسفة وعلماء المادة الغربيين، وعزله عن ممارساتهم الحياتية قد يكون ضرورة تقتضيها المرحلة الراهنة، خاصة في ظل العولمة التي تعيشها الإنسانية، وفي ظل هذا الانفتاح المحتوم على ثقافات وممارسات شعوب العالم، فمجتمعنا ليس مجتمعا ملائكيا، ولا محصنا ضد الكفر والإلحاد أو ضد تنحية الأخلاق هكذا بفطرته وعروبته، لا، ولكنه محصن باتباع تعاليم الدين الإسلامي الصحيح.

وإن نحن أبعدنا الدين عن حياتنا - لا سمح الله - فقدنا الحصانة، وزادت حالات الضياع واستعلت العقول على النقول الصحيحة والآراء الوسطية السليمة، وإن أكبر ما يمكن أن تخسره الشعوب، حتى أكثر من خسائر الحروب والصراعات، هو أن يفقد أفرادها الأخلاق والقيم المجتمعية، وعندئذ ستكون مهمة غرس القيم الرفيعة والأخلاق المثلى إما مستحيلة ومتعذرة أو مكلفة جدا، ولذلك قال أمير الشعراء وأعقلهم:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

drbmaz@