هند علي الغامدي

مخاوف لغوية

الجمعة - 07 يناير 2022

Fri - 07 Jan 2022

كان العرب قديما إذا أرادوا الفصاحة وإتقان اللغة العربية لأبنائهم أرسلوهم إلى البادية، وكان من أول أسباب وضع قواعد اللغة العربية وأهمها الخوف من فساد الألسنة بسبب الاختلاط بغير العرب ممن دخلوا في الإسلام، وإبان الفتوحات الإسلامية، والخوف من أن يطال ذلك الفساد تلاوتهم القرآن الكريم، ولاسيما أنه كان محفوظا في الصدور صحيحا مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.لكنه بعد ذلك الاختلاط وبعد تدوينه بدايةً بغير نقط ولا إعجام ولا شكل؛ أصبح قابلا لتحقق المخوف منه، وفي ذلك وردت الرواية عن الأعرابي الذي سمع رجلا يقرأ الآية الكريمة: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بكسر راء ﴿وَرَسُولُهُ﴾؛ فقال فيما حملته إلينا الروايات: «أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه»، وقد بنيت على هذه الرواية وأمثالها روايات كثيرة في ظروف وضع قواعد اللغة العربية.

الشاهد أنَّ اللغة ليست كائنا جامدا لا يتأثر؛ بل هي كائن حي يتأثر ويؤثر، فالخوف على اللغة العربية إذًا خوف مشروع، أما القرآن الكريم فلا خوف عليه؛ لأن الله العظيم تكفل بحفظه بلغته العربية التي أنزله بها، الخوف أن ينشأ جيلٌ لا يجيد العربية، ويخلط في كلامه بين أصواتها وأصوات غيرها من اللغات، أو بين صيغها وتراكيبها وصيغ غيرها وتراكيبه، أو حتى بين كلماتها وعباراتها وعبارات غيرها؛ فيضع هذه مكان تلك ويستبدل بعضا منها ببعض؛ فتصبح لغته هجينا، فلا هي عربية ولا هي أجنبية، أو يهجر العربية تماما.

هذا الجيل إذا قرأ القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الأدب والتراث العربي العظيم، كيف ستكون قراءته؟ وكيف ستكون قراءته القرآن تحديدا؟ وكيف سيكون فهمه إياه؟ هذا إذا استطاع قراءته؛ ذلك أنه شاع في المجتمع أنه من المتوقع ألا يتقن العربية قراءة وكتابة وفهما حديثا وضبطا وإتقانا إلا خريجو أقسام اللغة العربية المختصون في دراستها والعمل بها.

وأجد نفسي لا أملك إلا ابتسامة بائسة لسان حالها أن شر البلية ما يضحك؛ لأن الحقيقة المُرّة أن أولئك المختصين في العربية باتوا يعانون من فساد ألسنتهم وعجزها عن الضبط السليم أو الاسترسال في حديث بالفصحى دون لحن أو خلط بالعامية -والعامية مستويات- بين الفينة والأخرى، والأدهى والأمرّ دون الخلط باللغة الأجنبية وإدخال كلماتها دون حاجة، أو إدخال بعض المصطلحات التي لا يجدون لها بديلا في العربية، أو من باب الإعجاب، أو إظهار المعرفة والثقافة في بعض الأحيان.

هذا فيما يتعلق بالمختصين، فما بالنا بالعرب الآخرين ممن يعدون أنفسهم من غير المختصين، ويتخذون ذلك عذرا لارتكاب ما يرتكبون في حق لغتهم العربية، ثم ما بالنا بالأطفال الذين يتعرضون إلى ذلك الخلط في المدارس، والذين يدرسون في المدارس العالمية والأهلية التي تقوم على تدريس المناهج العالمية، وأولئك الذين يدرسون سنوات طفولتهم في الخارج بغير لغتهم العربية، ثم أولئك الذين يدرسون بالأجنبية (لغة العلم) ثم يأتون إلى المنزل ليتحدثوا بالعربية (لغة الحديث فقط).

المشكلة الخطيرة حين يكون المسؤولون عن تربية الطفل ممن يعانون من عقدة الغالب وتفوق الآخر والإعجاب به وتزعزع الهوية العربية والوطنية؛ فيكونون من متحدثي الأجنبية في المنزل إيمانا بصواب ذلك وأهميته في تأهيل أطفالهم ليواكبوا ركب الحضارة والرقي والتقدم، ويعظم الأمر حين تخفى عن الأهل والمجتمع أهمية إتقان لغة القرآن الكريم وفهمها والقدرة على تدبر إعجازه من خلالها صوتا وصرفا وتركيبا ودلالة وتداولا، ويُحرم الطفل من هذا الحق العظيم إلى جانب حقوق أخرى أهمها حق الانتماء والهوية بحرمانه من حق إتقان لغته العربية.

اللغة العربية هي الرمز الذي يعبر عن هويتنا الإسلامية والعربية والوطنية بكل ثرائها، ونحن جميعا مسؤولون عن استيعاب هذا الأمر وتمثله وتحمل مسؤولياته وتبعاته مهما صعبت، والأهم عن ترسيخه في نفوس أبنائنا وتفعيله في واقعهم.

hindali1000@