شاهر النهاري

الغوغاء تتجدد ولا تموت

الاثنين - 02 أغسطس 2021

Mon - 02 Aug 2021

عرفت الغوغاء في كل العصور، والأمكنة والأمم، وهم أفراد خفاف عقول متحمسون، يصرون على المشاركة بأنفسهم في كل حدث يطولونه، للفرجة، والفخر والمراقبة وادعاء التأثير، وبالتالي يستغلون في تنفيذ تصرفات وأحداث منقادة بطبيعة حماس الجموع، التي لا منطق لها، إلا الظهور ولو في طرف الصورة.

وقد عانت منهم حكومات، وأثروا في مسيرات أمم، حتى قال عنهم الصحابي علي بن أبي طالب «هم الذين إذا اجتمعوا أضرُّوا، ‏وإذا تفرقوا نفعوا.‏

فقيل: قد عرفنا مضرَّة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟! ‏قال: يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم، فينتفع الناس ‏بهم، البناء إلى بنائه، والنساج إلى منسجه، والخباز إلى مخبزه».‏

وقد أشعلت تجمعاتهم شوارع الأمم قديمها وحديثها، إما بتأييد حاكم، أو معاداة جار، أو طلب تغيير، أو مناهضة قانون.

ويعرف عنهم، أنهم قد يخرجون على ما لا يحيطون به علما، مكتفين بسماع بعض «طراطيش الكلام» عن بعد، وأن سذاجة المسلمات، وسرعة التصديق تحكمهم، وأن خفة الحركة، والمبالغة في إظهار العواطف طيبها وسيئها ديدنهم، وأن حماسهم وتحريضهم يزداد تبعا لكثرة أعدادهم.

وفي عصرنا حيث التقنية والتقدم استشرت خطورتهم، بقدرتهم على التواصل الافتراضي في البدايات، وأن خروجهم للشارع يتكون سريعا، فلا يعود تهمهم حواجز ولا حدود، سواء كانت الدول، التي يخرجون فيها متخلفة، كما في ثورات الربيع العربي، أو في دول متقدمة كما حدث في العاصمة الأمريكية واشنطن، باقتحام الغوغاء مبنى الكونغرس، على نهاية ولاية ترمب.

وما يميز غوغاء العصر الافتراضي الحالي، أن واقعهم متغلغل مستمر طوال الوقت في فضاء الإنترنت، وأنك تجد بينهم المثقف والجاهل، والطيب والشرير المحرض، والجاد يحاوره خصم هزلي متخف خلف قناع، وكم تتعاظم الجموع حول تغريدة مريضة ينحازون لها، أو يتكتلون ضدها، مهما كانت غوغائيتهم مضرة بشعوب وأوطان، ومهما لوثت سير نوابغ وحكام، ومهما قلبت المفاهيم العقلانية، فمقولة ضعيفة خاطئة قد تجمعهم بعنصرية جاهلية، ومقولة علمية مؤكدة، قد يذبحونها بالتشكيك، والتفكيك، والتكذيب، حتى تصبح في موازين غوغائهم زيفا وعدما.

الغوغاء شخوص بيننا، وفي البعد عنا، يرتدون الأقنعة، ويمكثون خلف كل هاتف يبحث عن فضيحة، ويجرون خلف كل شر يقلب موازين المنطق والعدالة والحرية والسلام واحترام حقوق الغير.

منظومة عشوائية مفتتة، غير أن لها محركين محرضين من العقول الخبيثة في الغالب، وممن يستسهلون الوسيلة مهما حطمت من أسس الصدق والأخلاق، والإنسانية والتعاطف الحقيقي، والتماهي مع كيد السياسة وخبثها، بغرض تحقيق الهدف القريب المرجو، حتى ولو أحرقوا من دونه مدنا، وحطموا معاني كانت محترمة قبل أن يتناولوها بغوغائهم.

وليس صدفة أن قياداتهم يكونون من المثقفين المحسوبين على المعرفة الإنسانية، وعلى قيادة الأوطان وعلى تاريخها الدبلوماسي، وللأسف أن التماهي بينهم وبين الغوغاء يحدث بتصنع أعذار روحانية أو وطنية.

المثقف ومهما بلغت ثقافته، حينما يعاشرهم، ينحدر، ويصبح قائدا بينهم، ويشعر بزهو مريض حينما يعانق هذه العشوائية، ويؤصلها بعقله وتاريخه وفلسفاته ومنتوجه الفكري، ويهيئ لهم عبور المسارات المغشوشة بمقولاته، وحيله ومغالطاته المنطقية، وبأهداف قد تكون مجرد شعور بجدوى وشعبوية الوصول إلى قاع الشارع، ولكن الكارثة تقع حينما يكون له أهداف أخرى مدفوعة الثمن.

shaheralnahari@