محمد الأحمدي

مصاصو الطاقة

الثلاثاء - 27 يوليو 2021

Tue - 27 Jul 2021

خلق الله الإنسان ليعمر الأرض. ومن ركائز العمارة والاستخلاف أن يتم استغلال قدراته فيما يحقق النفعية الذاتية والمجتمعية، لكن يعكر صفو هذا الاستخلاف مستهلكات الطاقة البشرية أو التسريبات الخفية للجهد البشري، التي سماها جون جوردن في كتابة The Energy Bus بمصاصي الطاقة Energy Vampires.

عند سماع هذا المصطلح للوهلة الأولى قد ينمو في ذهنك بأن مصاصي الطاقة بشر فحسب، لكن الحقيقة أن أشكال مصاصي الطاقة متعددة، ومختلفة من مجتمع إلى آخر، ما بين الناس، والأعمال الروتينية اليومية، والعمل، والأنظمة، وتعقد مهام الحياة اليومية، وزد عليها في هذا العصر وسائل التواصل الاجتماعي.

لكني سأقسم مصاصي الطاقة إلى قسمين: نوع اختياري يسلم فيه الإنسان نفسه لمستهلكات الطاقة تحت أي ذريعة تكون، وهذا لا علاقة لنا به في هذا المقال.

ونوع آخر، مستهلكات الطاقة التي فرضتها الأنظمة أو العادات الاجتماعية التي خلقها النظام في نفوس العاملين، والتي يتعامل معها المستفيد دون قدرة على تغييرها، وإنما التعايش معها لتحقيق مصلحته، وتحتاج فترة طويلة لتغييرها من المؤسسات المشرعة للإجراءات التنفيذية إذا تبنت تحديث المنظومة الإجرائية لتقديم الخدمة.

ولنتحدث عن شيء من أشكال مصاصي الطاقة في الحياة العملية، تبدأ رحلة مصاصي الطاقة في الصباح الباكر بكثافة الانغماس في كمية الأعمال الروتينية التي قد تديرها الآلة، أو ينفذها الفرد بنفسه دون جهد للسيد المسؤول؛ فما رأيكم بمسؤول أمام مكتبه رزمة من الأوراق التي تحتاج إلى توقيعه، ومصادقته على إجراءات روتينية يومية؟ استهلكت طاقته عن التفكير التخطيطي لمؤسسته، وأعاقت التركيز على العمل الجوهري، ومعرفة نقاط الضعف في مؤسسته والعمل على إنتاج الحلول المثمرة لها على المدى البعيد، وأسهمت في تقليل رضا المستفيد، وتدني إنتاجيته.

وما رأيكم بعقد اجتماعات مكررة يومية أو أسبوعية في أوقات تقديم الخدمة؛ فبالإضافة إلى أن كثرة الاجتماعات تستهلك القدرة الفكرية للأعضاء، وتزيد في كثافة القرارات، وأحيانا نتائجها هي تطبيق إجرائي لأنظمة سابقة، إلا أنها من السهولة أن تتحول إلى شكل من أشكال مستهلكات الطاقة بين الموظفين عند تضارب قراراتها أو إثارة جدليات بين الأعضاء.

وقد رأيت في مجلس القسم بجامعة الابتعاث أن الأمر يأخذ صورة القرار المتعمق في التفكير حيث تقديم القضايا الجديدة للأعضاء قبل فترة من عقد اللقاء التشاوري، من أجل كتابة مقترحاتهم، ووجهات نظرهم وتأملاتهم حول الحلول لتلك القضايا، ثم تأتي الجلسة الختامية لتحويل المقترحات لقواعد تنظيمية يستفاد منها في المستقبل عند تكرار قضايا مشابهة، دون إشغال الأعضاء بمهام روتينية تمتص جهدهم.

ومن صور مستهلكات الطاقة للفرد المستفيد عدم احترام حقه في الموعد المحدد له، حيث إن الموعد عقد بين المستفيد وبين مقدم الخدمة؛ فعندما يحصل المراجع على موعد للمراجعة على سبيل المثال في مستشفى ما فإن من واجب المنظمة أن تقدم له الخدمة في نفس الوقت المحدد، وإلا تعتذر عن ذلك بوقت كاف، وقد وصلني عبر البريد قبل أيام موعد مراجعة للمستشفى، وتضمن رسالة توعوية تشير إلى أن تكلفة عدم حضور الفرد للموعد تقارب خسارة 30 جنيها إسترلينيا من ميزانية خدمات الصحة الوطنية البريطانية؛ فما بالكم إن تغيب الطبيب الذي لديه عشرون موعدا في اليوم الواحد على أدنى اعتبار بواقع 12 دقيقة لكل مراجع؟

إن من مستهلكات الطاقة الفكرية اليومية الجدليات المستمرة، والحوارات غير المثمرة، والصراعات الفكرية غير المنتهية في المؤسسة، والأجدر في هذه الحالة أن يستثمر الإنسان طاقته الفكرية، ويحافظ على لياقته الفكرية بتجنبها عند عدم قدرته على التأثير الإيجابي.

إن هذه الحقبة الزمنية من الحياة، لا أعتقد أن من الذكاء الفردي ولا المؤسسي الانغماس في أعمال روتينية في وجود الذكاء الاصطناعي، والأتمتة للأنظمة، بل تفرغ الإنسان بقدراته العقلية الفريدة إلى التأمل في إنتاج حلول للقضايا المستحدثة، أو إضافة لمسة إنسانية على تلك الأنظمة، أو مراجعة البروتوكولات الإجرائية التي تساعد في تحسين الحياة، وبهذا يزيد استثمار طاقة الفرد الفكرية والبدنية نحو تحقيق مستهدفات المنظمات، وعمارة الأرض، وحسن الاستخلاف فيها. أما إن طغت مهام امتصاص الطاقة المجتمعية، ومشتتات الجهد الجمعي، وسادت مظاهر الاضطراب المؤسسي فإن من الطبيعي أن تتدنى الإنتاجية، ويقل الرضا تجاه الخدمات.

alahmadim2010@