مرزوق بن تنباك

والسبب ثقافي بحت

الثلاثاء - 30 مارس 2021

Tue - 30 Mar 2021

في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كان الاستعمار أو الاحتلال هو القوة السائدة في العالم القديم أو إن شئت أكثر تحديدا كان الاستعمار الأوروبي خاصة دون غيره، وكانت أقوى دول الاستعمار وأكثرها انتشارا في الشرق والغرب هي بريطانيا العظمى حتى قيل إنها لا تغيب عن مستعمراتها أو ممتلكاتها الشمس، وهو وصف قريب من الحقيقة إن لم يكن هو الحقيقة بذاتها.

ومنذ منتصف القرن العشرين ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يتقلص الاستعمار وينكمش امتداده في العالم بسببين، الأول الحركات التحررية والقومية التي نشطت في البلاد المستعمرة وواجهت المستعمرين بالثورة عليهم أو العصيان المدني على طاعتهم.

والثاني النظر فيما أحدثته الحرب الثانية من مآس وكوارث ولا سيما في الشعوب الضعيفة المستعمرة مما جعل الضمير الإنساني يعي ما صارت إليه أطماع المستعمرين فقامت المنظمات الأممية التي تنادي بحقوق الإنسان والحرية والكرامة للناس كافة، حتى إن أكبر دول الاستعمار بريطانيا قررت في ستينات القرن الماضي تصفية الاستعمار وانسحبت من مستعمراتها طائعة مختارة بموجب هذا القرار رغم أن بعض تلك المستعمرات طالبتها بالبقاء واستمرار حمايتها.

مرحلة الاستعمار مرحلة تاريخية كانت وانتهت، والحديث اليوم عنها هو حديث عن نتائج ترتبت على ذلك الماضي، وقد سجلت دراسات وبحوث ومقالات وكتب ومؤلفات وصفت ودرست آثار الاستعمار من جميع الوجوه والأحوال، وقال علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ الكثير عن حقبة الاستعمار في كل جوانبه الإيجابية والسلبية.

وهذا المقال استشكال لما تغير بعد زوال الاستعمار في وضع مستعمراته السابقة وكيف صار الفارق بين تلك المستعمرات هائلا نموا في بعضها وانهيارا في البعض الآخر.

وليكن المثال بريطانيا ومستعمراتها السابقة وحال تلك المستعمرات بعد الاستقلال وما نتائج حريتها واستقلالها. وسنأخذ الأمثلة من مستعمراتها الشرقية وسأعرض أربع دول غير عربية هي الهند وسنغافورا وهونج كونج وجنوب أفريقيا وأربع دول عربية هي العراق ومصر والسودان واليمن الجنوبية.

وهذه الدول الثمان مجرد أمثلة من عشرات المستعمرات البريطانية التي كانت في جميع القارات، والاختيار للمقارنة بينها وكيف أصبحت بعد الاستقلال الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن.

المثال الأول:

الدول الأربع غير العربية قفزت قفزات كبيرة وتقدمت تقدما ملحوظا في كل مناشط الحياة وأنظمة الحكم ومراكز الاقتصاد وحققت نموا مطردا ونافست العالم في الإنتاج الزراعي والصناعي وتبنت نظاما ديمقراطيا واستقرارا اجتماعيا وتجاوزت في قوانينها وتقدمها حتى الدولة التي كانت مستعمرتها، وأصبح الفرق شاسعا بين حالها تحت الاستعمار وحالها بعد أن استقلت بشأنها ونالت حريتها، وهذه هي النتيجة الطبيعية للكفاح من أجل الحرية والاستقلال عن المستعمر الذي كان يمسك بخيراتها ويستبد بحريتها، ولو نظرنا إلى مجمل المستعمرات البريطانية التي استقلت بعد تصفية الاستعمار لكان حال أغلب الدول مماثلا لحال هذه الدول الأربع التي وقع الاختيار والتمثيل بها إذ كان زوال الاستعمار مؤذنا بانطلاقها وتحقيق نموها في كل الاتجاهات ونجاحها كدول نموذجية.

المثال الثاني:

الدول العربية الأربع، فالنتيجة صارت مختلفة تماما، فقد نالت استقلالها وحريتها وهي ذات اقتصاد قوي مزدهر ونمو يفوق نمو الدولة المستعمرة ونظام دستوري ديمقراطي مستقر وأمن ومجتمع سلام لا يعرف الحرب ولا تسوده الفتن والاضطرابات ولا تعرف شيئا اسمه الطائفية القاتلة ولا المذهبية البغيضة، وبعد خمسين عاما من الاستقلال أو أكثر من ذلك أصبحت كما نراها ونشهدها اليوم، فقد فقدت مقومات الدولة والاستقرار وتخلفت خطوات كثيرة عن وضعها عندما استقلت وثلاث منها أصبحت أقرب إلى الدولة الفاشلة.

هذا الوضع القائم للدول العربية لا نختلف عليه، لكن سنختلف كثيرا حول الأسباب التي جعلت الدول غير العربية تصل إلى ما وصلت إليه من التقدم والرقي والازدهار، والأسباب التي جعلت الدول العربية تصل إلى ما وصلت إليه من الضعف والتفكك والانهيار.

السبب في كلا الحالين هو سبب ثقافي بحت، ثقافات ميزت بين ماضيها وحاضرها وأخذت في الحاضر وسارت إلى المستقبل، وثقافة رأت كل مجد لها هو في الماضي فحاولت العودة إليه والتمسك به، وشكت بسلامة حاضرها وأهملت مستقبلها، وهذا هو السبب وليست تلك الأسباب التي نحيل عليها في جدالنا الطويل ودفاعنا المستميت عن أخطائنا وتزكية ما نحن فيه، ولوم الآخرين وإلقاء التبعة عليهم.

Mtenback@