زيد الفضيل

من يصنع الدال؟

السبت - 10 أكتوبر 2020

Sat - 10 Oct 2020

في حديث قديم مع الإعلامية أميرة العباس على إذاعة (MIX FM) تساءلتُ في معرض حديثي عن الشهادات الوهمية عن فحوى قيمة الشهادة من أصلها، بمعنى: هل الشهادة العلمية العليا هي من تصنع الإنسان؟ أم الإنسان هو من يصنع شهادته؟ وحديثي هنا منصب حول شهادة علمية عليا حقيقية وليست وهمية أو مزورة، لكون الشهادتين الأخيرتين (الوهمية والمزورة) تندرجان في خانتي الزيف والغش المُجرمتين قانونا وأخلاقا.

وزيادة في التوضيح فالقصد بالشهادة العلمية العليا الحقيقية هي تلك التي صدرت من جهة تعليمية رسمية، حاصلة على اعتماد أكاديمي يخولها منح درجتي الماجستير والدكتوراه، في حين تصدر الشهادة الوهمية من جهة غير معروفة، وليس لها أي اعتراف رسمي من جهات الاختصاص لديها، وبالتالي لا تملك شهادة الاعتماد الأكاديمي، وهي بذلك أشبه ما تكون بشهادة صادرة من دكان هنا وهناك يقوم ببيعها كسلعة بقيمة مالية معينة، ويتم حشوها بأختام لا علاقة للشهادة بها، كأختام قنصلية هنا وهناك أيضا، علما بأن الجهة الرسمية الوحيدة لاعتماد أي شهادة خارجية هي الملحقية الثقافية أولا، ومن ثم الجهات المعنية بوزارة التعليم وليس غيرها.

على أن الشهادات العلمية المزورة أخطر بكثير على المجتمع والحياة من الشهادات الوهمية، حيث تقوم بعض مكاتب الاحتيال المحترفة بكتابة الرسالة العلمية والأبحاث المقررة نيابة عن الطالب، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، ليقدمها من ثَمَّ لقسمه العلمي، فيحصل على شهادته دون بذل أي جهد، وهو ما ينكشف عواره بعد ذلك في مسيرته الحياتية التي يكتنفها الضعف المعرفي والضحالة الفكرية. ولا يقتصر التزوير على ذلك وحسب، بل يصل إلى إصدار تلك المكاتب شهادة علمية مزورة باحترافية ودقة عالية تنتمي لجهة رسمية معتمدة، ولعمري فتلك هي الكارثة.

في هذا السياق أشير إلى اجتياح نمط آخر من الزيف والتزوير والغش، وهو المندرج تحت اسم شهادة «الدكتوراه الفخرية» التي انتشر بريقها في ثنايا المجتمع، وبات عديد من أفراده يلقبون أنفسهم بموجبها بلقب علمي لا يستحقونه علميا وقانونيا، والعجيب أن بعضا منهم أعظمُ مكانة وقدرة من الشهادة ذاتها، لكنهم قد وقعوا في حبائل الوهم والزيف للأسف الشديد.

ولأكون دقيقا أشير إلى أن درجة «الدكتوراه الفخرية» قد تم اعتمادها من قبل مجالس الجامعات العلمية لتكون تكريما لباحث لم يحصل على الدرجة العلمية بمقياسها الحديث، لكنه تميز بجهده العلمي وقدرته البحثية، وكان لإنتاجه المعرفي أكبر الأثر في خدمة العلم وأهله، فيأتي منحه الدرجة الفخرية بمثابة الاعتراف الأكاديمي بعلمه وبجهده، وبالتالي فالدكتوراه الفخرية صادرة من جامعة رسمية، معتمدة أكاديميا، وتمنح درجتي الماجستير والدكتوراه الحقيقيتين أولا، وليس من دكان هنا وهناك، أو جامعة وهمية لا أساس لها، وهي في الابتداء والانتهاء لا تعطي صاحبها الحق باللقب العلمي، وإن كان مُستحقها الصحيح وليس الوهمي أكبرُ في قدره ومكانته من اللقب العلمي المستحدث، فهو من يصنع «الدال»، وليست «الدال» من تصنعه، وليت الوهميين يدركون ذلك!

حقا، ماذا أقول وما أبقي وما أذر؟ فما أكتب فيه وغيري منذ عقد ونصف العقد، وما نذر له الدكتور موافق الرويلي من وقته وجهده لكشفه وبيان خطورته على المجتمع والوطن، لهو من المصيبة التي عمت بها البلوى كما يقال، ولستُ، ولسنا جميعا، ممن حملوا على عاتقهم كشف هذا الزيف والغش بدافع الحسد، أو رغبة في احتكار صفة معينة، وإنما كان ولا يزال همنا منطلقا من تقويم وإصلاح أسس مجتمعنا، الذي نريد أن نصل به لرؤية الوطن القادمة في (2030) ونحن في أبهى حلة، وأقوى حُجة ومنطق.

أشير ختاما إلى أن ظاهرة الشهادات الوهمية قد جاءت انعكاسا لأزمة في بنيتنا الأخلاقية من جهة، وقصورا في رؤيتنا الفلسفية للحياة من جهة أخرى، إذ حين تكون الشهادة هي المعيار الرئيس للوظيفة والترقي في مدارجها، فإننا نكون قد أسهمنا في استزراع هذا السرطان دون وعي، وحين تصبح «الدال» هي مقياس ومؤشر الاحترام والاعتراف بالقيمة العلمية فحسب، فإننا نكون قد أسهمنا في تدمير أسس بنيتنا المعرفية، مكررين ما كرسه سلفنا خطأ حين حصروا القدرة والمكانة العلمية في خاصية الحفظ، دون أن يرافق ذلك تعزيز لقدرات التفكير والتدبر، فأنتجنا حفاظا وليس مفكرين، وهكذا نحن اليوم بسياقنا الفلسفي الخاطئ ننتج دكاترة وليس علماء نستنير بإضاءاتهم، ولذلك صار اللقب أهم من المحتوى، وصار التباهي خارج مكانه العلمي وحرمه الجامعي بدرجته العلمية العليا المتخصصة كلقب (بروف)، ركيزة تقوم عليها الحياة، وهو ما لا نشاهده في الغرب المتقدم، والله المستعان.

zash113@