سلطان الحويطي

كيف يتعاطى المستشرقون مع المكان؟ مدينة الوجه أنموذجا

السبت - 28 سبتمبر 2019

Sat - 28 Sep 2019

يقول هاري سانت جون فيلبي «الطريقة المثلى لرؤية بلد ماء هي السير على الأقدام أو على ظهر جمل»!

يبدو لي أن هذا التصور قاصر نوعا ماء، فلو أن السيد «فيلبي» اشترط لفكرته تلك أن يكون السير برفقة الإنسان ذلك المكون القادر على تأكيد حقيقة الوجود لكانت رؤيته للمكان أعم وأشمل ولاستطاع فيلبي وغيره من المستشرقين قراءة ملامح الناس المعجونة بالمكان بوضوح، ولنفذوا دون قيد لروحه وكشفوا عن عبقريته المتجلية في وعي الإنسان ذاته.

في مارس 2005 زار الكاتب البريطاني المهتم بشؤون الوطن العربي «جايمس بار» مدينة الوجه، تجول في شوارعها يحمل في مخيلته تصور «للوجه» القديمة في بداية القرن التاسع عشر استمده من وصف «غارلاند» و»براي»، وبعد أن تحدث «جايمس» عن المرفأ القديم وما تبقى منه أخذ يتحدث عن تعامل السكان المحليين مع الغرباء بنظرة قاصرة، معتمدا في ذلك على أفكار مسبقة جعلته يحيد عن طريق الحكمة المتمثل في الإنصاف والحياد، يقول في كتابه «الصحراء تشتعل» «قلما يصادف المرء غرباء هنا، وقد شعرت من النظرات التي كانوا يرمقونني بها أنه غير مرحب بهم. وزع مجلس المدينة على طول الواجهة البحرية عددا من المقاعد المطلية برسومات مزركشة كانت جميعها فارغة عند مروري من هناك».

تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ تلك السطور سؤال متأزم: كيف سيتعاطى الإنسان القادم بعد عدة أزمان مع هذا التصور الفارغ لمدينة الوجه؟ والذي يشبه فراغ المخيلة التي تمخضت عنه! وتساءلت بأسى: ألا يعرف «جايمس» أن الأمكنة تخبئ تفاصيلها عن الغرباء! ولكنني استدركت: ربما انشغاله بتتبع أحداث الثورة العربية الكبرى وتفنيدها صرفه عن معايشة تفاصيل المكان. ولكن ذلك أيضا لم يكن كافيا لتبرئته من قصوره في تبيان المكان، ولا سيما أنني أعرف الوجه جيدا في تلك الفترة التي تحدث عنها، أعرف تلك المقاعد المثقلة بالأحاسيس! وملامح الناس المعجونة بشغف اللقاء، أعرف تلك الليالي القادمة على متن الريح والمحملة بالألفة والنقاء، أعرف الحارات الصغيرة الغارقة في تفاصيل السعادة. فكيف لم ير «جايمس» ذلك كيف لم يشعر به؟!

تدافعت صور المكان التي جاءت في كتب المستشرقين في مخيلتي دفعة واحدة، فكانت أمكنه ميتة! أقصي إنسانها إما بالتهميش أو بفوقية تتناسب مع أهواء المستشرقين في تجسيد الصورة المطلوبة عن إنسان الوطن العربي بأنه كائن بدائي منشغل بنسج أساطيره وخرافاته عن مواكبة العالم المتحضر الذي يقوده العقل الغربي.

وهذا التعاطي من المستشرقين يضعنا في حيرة التفسير، فهل هذا نتاج العجز في توكيد الذات دون استبعاد الآخر؟ أم هو نتاج فكر قام على النفعية والانتقاص من الآخرين بعيدا عن أسئلة الهوية؟!

وهذه الحيرة تقابلها حقيقة أن إجابات الاستشراق تبقى مرة كالعلقم مهما حاولنا تجرعها وأسئلته دائما ما تكون موجعة كوجع سياط المستعمر!

وأيا تكن الإجابة، فالمحصلة تضعنا أمام محاولات قاصرة لوصف المكان قام بها المستشرقون الذين لم يعنهم الالتزام بأدوات البحث بقدر التزامهم بتنفيذ أجندة لمشروع حكمته ظروف تلك الفترة، والمعضلة أنها استمرت دون تنقيح لتبقى تلك العلاقة المشوهة بين الإنسان والمكان مصدرا من مصادر التاريخ.

فكتب المستشرقين تلك، خاصة التي تحدثت عن الجزيرة العربية أصبحت ذات قيمة ثقافية ومرجعا تاريخيا لمعظم الباحثين، بما تحمله من مغالطات وتشويه لهوية الإنسان العربي دون أن تخضع لمراجعة كاملة لكل معطيات الفترة الزمنية التي كتبوا عنها، ولا سيما أنها تأتي ضمن مشروع ارتبط بغايات سياسية في زمن معين، فهل ستبقى تلك الكتب تحمل صورة مشوهة للإنسان والمكان؟ أم إنها ستخضع للتحليل النقدي الدقيق من قبل مختصين إنصافا للتاريخ.

@Sm9Sultan