أحمد صالح حلبي

فارتيما.. جاسوس وليس حاجا

الخميس - 08 فبراير 2018

Thu - 08 Feb 2018

بعد حديثي عن الليدي إفلن كأول بريطانية تزور مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ومن ثم ما تناولته عن جوزيف بيتس كأول إنجليزي يزور مكة المكرمة ويؤدي فريضة الحج، تلقيت اتصالات ورسائل من قراء يشيرون إلى أن أول أوروبي زار مكة المكرمة هو الرحالة الإيطالي لودفيكو دي فارتيما. وبقدر اعتزازي بمن تواصل معي للإيضاح فإن حديثي بداية كان عن أول إنجليزي وليس أوروبيا، وفارتيما وإن كان أول أوروبي يزور مكة المكرمة ومناطق الحج، فإنه لم يكن حاجا بل جاسوس، وقد أطلق على نفسه اسم «الحاج يونس»، وهو رحالة إيطالي، عمل في خدمة البرتغاليين، وحددت مهمته في جمع المعلومات عن الأحوال الداخلية في البلاد الإسلامية، ودراسة النظم الاجتماعية والاقتصادية بها، لتسهيل الانقضاض عليها.

وهو أول أوروبي غير مسلم زار مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان ذاك عام 1503، وتحمل ترجمته الكثير من الأسرار والخفايا، البعض منها ذكر في رحلاته التي ترجمها الأستاذ عبدالرحمن عبدالله الشيخ، والبعض الآخر لا يزال خافيا ومجهولا.

وأوضحت بعض المراجع أن أحد التجار المسلمين الذين يعرفون الإيطالية اشتبه في فارتيما فاعترف له بأصوله الإيطالية، وأنه كذب عليه وادعى أنه قد أسر وأصبح مملوكا لأحد الأمراء في مصر، وتوسل إلى التاجر المكي أن يخبئه في بيته حتى رحيل قافلته إلى الشام وهو ما حدث.

وقد أوضح أستاذ التاريخ في جامعة الزقازيق بمصر، الدكتور حاتم الطحاوي أن فارتميا استطاع «رشوة القائد المملوكي لقافلة الحج المتجهة من دمشق إلى بلاد الحجاز، ومنحه القائد حصانا كما سمح له بأن يرتدي لباس المماليك المرافقين لرحلة الحج الشامية التي اتخذت طريقها جنوبا لتعبر الصحراء حتى تصل أولا إلى المدينة المنورة»، حيث وصف دي فارتيما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبره قبل أن يغادر المدينة مع قافلته متجها إلى مكة المكرمة.

وتعجب فارتيما من أعداد وجنسيات المسلمين الذين وصلوا للحج من الشام ومصر، وكذلك من إثيوبيا وبلاد فارس، وكثرتهم لدرجة أنه قال «الحق أقول لكم إنني لم أر أبدا تجمعا هائلا احتشد في مكان واحد كما رأيت في مكة».

وعندما دخل فارتيما إلى المسجد الحرام لفت نظره أولا رائحة المسك والروائح العطرية في أرجاء المسجد، وقال «من الصعب أن أصف لكم روعة الروائح التي شممتها في ذلك المسجد».

وذكر أن للمسجد الحرام تسعين بابا، كما وصف الكعبة المشرفة، وذكر أن كسوتها من الحرير الخالص، وأن بابها من الفضة الخالصة، كما ذكر طواف الحجاج بالكعبة، ولعله طواف القدوم، وإن كان لم يشر إلى ذلك صراحة.

واختصر أهم أركان الحج إلى بيت الله الحرام والصعود إلى عرفات، فذكر أن الحجاج يتجهون إلى عرفات قبل أن يقوموا بتقديم الأضاحي.

كما تحدث، بعد أن أخطأ في ترتيب أيام الحج، عن وقفة عرفات، وعن الخطبة التي استمرت زهاء الساعة، وأفاض في الحديث عن يوم النحر، وذكر أن كل حاج رجلا كان أم امرأة كان ينحر رأسين أو ثلاثة من الأغنام أو أكثر؛ ولهذا فهو يعتقد أن الحجاج في هذا العام 908هـ و1503م نحروا ما يقرب من ثلاثين ألف رأس، كما ذكر أن عشرات الآلاف من الفقراء استفادوا من هذه اللحوم.

ولاحظ الحمام الموجود بسلام في مكة المكرمة لدرجة أنه قدر أعداده ما بين 15 - 20 ألفا، فذكر أنه يطير في كافة أرجاء مكة بأمان تام، ولا يجرؤ أحد على إيذائه، على الرغم من أن الحمام يحدث بعض التلف بالمسجد الحرام.

وقبل أن يغادر فارتيما مكة المكرمة مارس أيضا دوره الرئيسي وهو التجسس على أحوال مكة الاقتصادية تحت حكم المماليك، وذلك عبر طرح بعض الأسئلة المدروسة على ذلك التاجر، فسأله عن الجواهر والبهارات التي تشتهر بها أسواق مكة، وكذلك أين مختلف أنواع السلع والبضائع التي كانت تمتلئ بها أسواق مكة. وكان دي فارتيما يدرك أن الحصار البرتغالي على سواحل الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر هو السبب في ذلك، ولكنه استدرج التاجر المكي الذي أخبره بأن حصار ملك البرتغال هو السبب في عدم وصول السلع والبضائع بوفرة إلى أسواق مكة.

ولنترك كلماته تعبر عن ذلك الموقف، حيث قال «عندما أخبرني أن ملك البرتغال هو السبب في ذلك تظاهرت بالحزن العميق، وأرسلت فيضا من السباب على ذلك الملك البرتغالي مخافة أن يكتشف التاجر المسلم سعادتي لنجاح المسيحيين في استغلال طريق رأس الرجاء الصالح».

وخلاصة القول إن فارتيما لم يكن حاجا بقدر ما كان جاسوسا، استخدم من قبل البرتغاليين، لنقل أسرار الدول الإسلامية التي زارها.

[email protected]