فاتن محمد حسين

المثقف وصناعة القدوة

السبت - 27 يناير 2018

Sat - 27 Jan 2018

لقد كان حديثا فاح عبيره بملامح الزمان والمكان، ونسجت كلماته لتخلد في ذاكرة التاريخ الثقافي المكي روعة العطاء. إنه (حديث الثقافة) من قامة ثقافية جمعت بين الهوية الإسلامية العربية المتأصلة الجذور، واستأنست بالمثاقفة الإبداعية في فرنسا أثناء الدراسة ونيل درجة الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون. إنه سعادة الأستاذ الدكتور فهد العرابي الحارثي الذي شرف نادي مكة الثقافي الأدبي بحضوره في أمسية استثنائية يوم الاثنين 5/‏5/‏1439.

ولقد عرج سعادته على موضوعات رئيسة، منها الاستراتيجية الوطنية لجيل الشباب التي يعمل على تحقيقها مركز أسبار برئاسة صاحب السمو الملكي مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، والذي يقود مشروع (كيف نكون قدوة؟) في نسخته الثانية لعام 1439.

كما عرج سعادته على مشروع اشتراكه في برنامج دراسة الاحتياجات التنموية في مكة المكرمة، ثم موضوع (الثقافة الاقتصادية)، وأنها لم تعد ترفا بل حاجة ملحة. كما تناول موضوعات أساسية للثقافة الاقتصادية في المملكة، وهي السياحة العالمية، ومنح التأشيرات مؤخرا للسياحة في الوطن، ثم مشروع البحر الأحمر، ومشروع القدية، ومدينة نيوم العالمية، وما توفره هذه المشروعات التنموية من اقتصاد قوي للملكة عن الطريق السياحة والترفيه، وهي في مجملها تبادل ثقافي مع الدول الأخرى. وحقيقة استمتع الحضور باللقاء، وقد كانت المداخلات على مستوى اللقاء من الثراء والتنوع الثقافي.

وقد تعجبت في نفسي من هذه الشخصية التي على مستوى عال من الوطنية، بينما البعض حينما يذهبون للخارج يصابون بالصدمة الحضارية، فقد استطاع هذا المثقف الأنموذج التمسك بالثوابت الدينية الإسلامية ثم انفتح على ثقافة الآخر، فأخذ منها ما يلبي مدركات الثقافة الفكرية، وما يتواكب مع روح العصر؛ مؤثرا ومتأثرا بها.

حقا لقد عايش (المثاقفة الإبداعية) بكل مكوناتها الإيجابية التي تبعد مفهوم الاستلاب الحضاري إلى مفهوم التعايش والحوار بين ثقافتين مختلفتين شكلا ومضمونا، وهي من أشكال التزاوج بين وجوه حضارية وثقافية واجتماعية مختلفة تؤدي إلى إيجاد نوع من التفاهم الأيديولوجي بين الثقافات.

مع أنه عادة يكون الموروث الثقافي الاجتماعي - خاصة العقدي- حجر عثرة في سبيل التواصل والحوار مع الآخر، ولكن المثاقفة على المشتركات الأساسية ثم التدرج لتكوين القناعات عبر المناظرات الفكرية والحوار حتما تثمر عن تحقق الأهداف والوصول للحقيقة. فدين رسولنا الكريم سيدنا محمد بن عبدالله انتشر في أقاصي الدنيا من خلال التجار المسلمين بأخلاقهم وتعاملاتهم مع سكان البقاع التي دخلوها فعملوا على انتشار الحضارة الإسلامية هناك.

وحتى في الفتوحات الإسلامية ظهرت براعة القائد المسلم في (قيادة المثاقفة) بأخلاقه واتباعه لأوامر الدين في معاملته للأعداء، فمحمد بن القاسم الذي فتح بلاد السند ما زالت تلك البقاع من الأرض تذكر مآثره ومناقبه وحكمته في التعامل مع أهل البلاد المفتوحة (ومجادلتهم بالتي هي أحسن)، من خلال الإدراك لعقلياتهم ومخاطبتهم بمستوى يتواكب مع العقل والمنطق السليم، وهكذا انتشرت الثقافة الإسلامية في كل بقاع الدنيا.

وحديثا الأخذ من الثقافات الأخرى أمر حتمي تفرضه طبيعة الحياة المتجددة، خاصة بعد انتشار التقنيات العلمية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت من الكون حجرة واحدة، مما جعل التبادل الثقافي أمرا لا مفر منه، مما يسهل الاندماج الحضاري واحترام الآخر مع الاحتفاظ بالثوابت.

ولعلنا نتبع في مثاقفتنا مع الشعوب العالمية مبدأ المهاتما غاندي ومقولته الشهيرة «إنني أفتح جميع نوافذي للشمس والريح، ولكن أتحدى أي ريح أن تقتلعني من جذوري». إنها المبادئ والقيم تمتزج بالتسامي والانفتاح لتكون المثاقفة الإبداعية، والتي نتمنى نحن تفعيلها على جميع المستويات لنكون القدوة والأنموذج للحضارات الإنسانية على المستوى العالمي، وإن الإسلام ليس دين تطرف وإرهاب، ولكنه دين التسامح والوسطية والاعتدال.

شكرا لذلك الإمتاع الثقافي في حديث سعادة الدكتور فهد العرابي الحارثي وللإدارة الفذة من سعادة الدكتور علي العنزي. وكل الشكر لنادي مكة الثقافي الأدبي على مجهوداته الكبيرة للمشاركة في مبادرة (كيف نكون قدوة؟) وتفعيل المبادرة لبرامج متنوعة تلبي احتياجات المنطقة في صناعة الإنسان القدوة.