تقنية الذكرى المنسية

الأربعاء - 18 يناير 2017

Wed - 18 Jan 2017

ظلت وسائل الإعلام العالمية لعقود -بل لقرون- طويلة تحت رقابة الحكومات، إلى أن جاءت مرحلة اخترع «الانترنت» الذي سمح به للتداول الاجتماعي العام، فحصلت مرحلة انعطاف في التاريخ العالمي، وقلت بموجب ذلك سطوة الرقابة على الفرد والمجتمع، وهذا رغم ما له من إيجابيات يراها العالم، إلا أنه أفرز سلبيات أيضا.



وبعد اختراع تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الرقيب (ذاتيا) فحسب؛ ولذلك نجد اليوم أن تأثير هذه الوسائل أصبح أكثر سرعة وقوة، ليس فقط على مستوى الخبر والمعلومة، وإنما على مستوى صياغة الرأي العام، حيث اختفت تدريجيا عوامل التوجيه والرقابة بجوانبها كافة؛ فأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بفرز المتشابهين في منظومة واحدة، وأصبح هذا العالم الالكتروني أقل تقبلا للاختلاف والتعددية.



وبصرف النظر عما يتم من دراسات حول التأثيرات التربوية والصحية لهذه الوسائط رغم أهميتها، فإن هنالك أمرا ربما هو أكثر ضررا على المستوى الحضاري، وهو احتمال تحول العالم إلى أمم بلا تاريخ.



فالآثار الالكترونية للمستخدمين على الانترنت -أيا كان الوسط- تبقى لسنوات طويلة، لكنها محدودة قياسا على قرون سابقة أسهمت الوسائط المستخدمة ببقاء المنتج الحضاري المادي قرونا طويلة.



أما عصرنا الحاضر رغم ما فيه من ميزات، فإن المحافظة على الإرث الحضاري الحالي لفترات مستقبلية أمر صعب إذا لم تكن هنالك مراكز لحفظ هذا المنتج.

بل إن التقنيات الحديثة أسهمت في تكريس «الذكرى المنسية» وبالتالي تعويد الذاكرة البشرية على نسيان الرسالة الماضية لتستقبل الرسالة الحالية، في حلقة مفرغة لا يعرف بالضبط ماذا ستؤول إليه في العقود القليلة القادمة.



وتعتبر برامج وسائل التواصل الاجتماعي ذات دلالة على اختفاء الأقدم لصالح الأحدث - وبعبارة أخرى اختفاء الماضي لصالح الحاضر.

ومن أهم هذه الوسائل الحديثة التي تجسد هذه القضية برنامج «سناب شات» الذي يعتبر الأحدث من بين البرامج والتطبيقات الالكترونية للتواصل الاجتماعي عما هو أقدم منه مثل (يوتيوب، وفيس بوك، وتويتر) حيث إن «سناب شات» يعتمد على الذكرى المنسية بشكل أساسي، بل إن هذه الفكرة هي أساس البرنامج وإن تم تحديثه لاحقا ليحتفظ نسبيا بـ «القصص» المنسية ربما نتيجة اكتشاف من قبل الشركة بارتباط الإنسان بماضيه، ولا سيما الماضي الحضاري الذي يعتبر رصيدا إنسانيا قبل كل شيء؛ ولكن رغم ذلك، فإن أغلب مستخدمي هذا البرنامج لا يحرصون على إعادة نشر ذكرياتهم المنسية لمتابعيهم، بقدر ما يحرصون على الاحتفاظ ببعضها لأنفسهم لا أكثر.



إذن، أصبحت ذاكرتنا البشرية الكترونية وأكثر ميلا للنسيان وتفريغ الذكريات، وبالتالي يؤسس البشر لحضارة موقتة ومنسية، وهذا أمر خطير يكرس عدم اهتمام مجتمع ما بإرثه الحضاري؛ مما يستلزم أن يكون للناس رصيدا حضاريا يقاومون به حاضرهم ويمدون به أجيالهم المستقبلية، وهذا يندرج تحت العنوان العريض لـ «التربية الإعلامية» كي تتحرر الأجيال من سطوة وسائل الإعلام.



قبل عدة سنوات، طرحت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) مبادرة مبتكرة لتزويد أجيال المستقبل بما لدينا من ذكريات، حيث أعلنت للأفراد في العالم عن إمكانية إرسال أي شيء من حضارتنا الحالية -كالهاتف المحمول أو الكمبيوتر اللوحي- إلى المنظمة لتسليمه إلى الأحفاد في الوقت المحدد بعد دفنه تحت مقر المنظمة!



لا أعرف بالضبط ماذا حل بتلك المبادرة أنجحت أم لا، ولكنها على الأغلب كانت تهدف إلى التوعية بالقيمة الحضارية التي تفرضها ضرورة ترك شيء ما من حضارتنا الحالية لأحفادنا بعد رحيلنا، لكيلا نكون ذكرى منسية!