عبدالعزيز الخضر

خطة عمل للصحافة السعودية

السبت - 14 يناير 2017

Sat - 14 Jan 2017

تواجه الصحافة في العالم مخاطر متعددة تهدد بقاء كثير من المؤسسات الصحافية التي لا تجد مصادر دخل لاستمرارها، كما تواجه غيرها من وسائل الإعلام الفضائية والإذاعية التي تحاول إعادة وضع قدمها على أرض صلبة مع موجة إعلام الكتروني ما زال يغمر كوكبنا ويعيد النظر إلى جميع مخلفات إعلام ومفاهيم القرن التاسع عشر والعشرين، هذه التحديات التي تواجه صحافة العالم تختلف نسبيا بين مكان وآخر، وصحفنا السعودية تواجه مشكلات من نوع آخر، حيث تعاني مبكرا من ترهل إداري، وبيئة طاردة للكفاءات التحريرية التي هي صناعتها لصالح بنية إدارية من مخلفات القرن الماضي، وأصبحت المناصب التحريرية تعتمد على العلاقات، حيث تراجع المحتوى متزامنا مع هجرة القارئ لخيارات أخرى. فخلال عقدين من ظهور النت وتطوراته المتدرجة منذ 1997 وهي فترة طويلة نسبيا لإعادة التكيف والتموضع مع هذه التحديات فإن بعض الناشرين والصحفيين المخضرمين انشغل في العقد الماضي بمديح الورق والتغزل بالحبر ورائحته، وأن الوقت ما زال مبكرا لإعلان نهاية العصر الورقي، حتى تكشفت في السنوات الخمس الأخيرة أمور متسارعة بدا فيها الإحساس بتوديع حقيقي، وأن خداع الذات لن يستمر طويلا.



ولهذا يحسب لرئيس هيئة الصحفيين خالد المالك ما كتبه في سلسلة مقالات حول اعترافه بالأزمة ودعوته للبحث عن حلول ومقترحات. هذا الاعتراف ليست مشكلته التأخر فقط، وإنما في مضمونه حول إشكاليات متعددة في تصوره لنوع الأزمة وحلها. فقد اجتهد وهو الصحفي المخضرم بحل الأزمة بناء على استثمار ما تبقى من زمن الورق الميت منذ سنوات، ولهذا استطرد بعرض حلول تجاوزها الزمن، وليست في صلب الأزمة التي تتطلب ثورة تجديدية، فقد أشار إلى مشكلة الخطوط السعودية وتفاصيل نقل الصحف، والحديث عنها في هذه المرحلة ليس مجديا، فالمشكلة ليست في وصول الصحف أو تكلفتها وإنما إذا وصلت لا أحد يشتريها، ويبدو غريبا أن المراهنة على بقايا شريحة في طور الانقراض «غير أن شريحة أخرى كبيرة جدا ما زالت رفيقة درب وعلاقة وتاريخ بالصحافة الورقية، ولا يغنيها قراءة الأخبار والآراء عبر الوسائل الحديثة عن قراءة الصحف الورقية»، فهذه الشريحة المتوهمة لم يعد لها وجود ككتلة واضحة، ولهذا شعر المعلن بالسنوات الأخيرة بالتراجع وأخذ حضوره يزداد بالانترنت بل والتوجه إلى الأفراد المشاهير بمبالغ كبيرة تفوق صفحة كاملة لبعض الصحف.



لا أظن من المناسب استجداء وزارة التجارة لأنها سمحت للشركات المساهمة والبنوك بعدم نشر إعلاناتها ربع السنوية في الصحف والاكتفاء بنشرها في تداول، فهذه الإعلانات الجبرية لن تعالج الأزمة.. وهي من حق مستثمرين آخرين في شركات مساهمة، لتضع هذه المبالغ في إعلانات ذات عائد لها. وليس صحيحا أن مشكلة الإعلان له علاقة بحصة الإعلانات في المملكة، بقدر ما أن منصات الإعلان نفسها تفتت وأصبحت أكثر جاذبية للمستثمر الذي يريد عائدا فوريا لإعلانه. ويعترف المالك بأن الأكثر تأثرا هي الصحف الكبيرة، «... وهذه الصحف هي التي تطبع كميات كبيرة، وتصدر بصفحات كثيرة، ولديها عدد كبير من العاملين صحفيا وإداريا وفنيا».



ويبدو غريبا أن يعول على سنوات إضافية بسبب بعض الدراسات بأن الورقية قد تعطي مهلة لعشر سنوات، والواقع أن عشرين عاما مضت كانت كافية للاستيقاظ، وأنه يجب من الآن التخلي عن عشق الورق وعدم تصور الجريدة إلا بها، فالصحافة والعمل الصحفي ليسا مجرد ورق وإنما محتوى وتحرير وخطاب إعلامي مؤثر. وفي الحقيقة أن الانترنت تجاوزت طورها التقليدي الذي بدأت به، وقد أتاحت خيارات واسعة للتطوير والإبداع والتفرغ لجودة المحتوى وتجاوز الجغرافيا ومشكلة النقل للوصول للقارئ بأي مكان، والإعلان بدوره هو في طور تشكل مستمر وإعادة تموضع، وبدأ هذا العالم يفتح آفاقا استثمارية تفوق الماضي إذا تم العمل عليها برؤى وفق المرحلة، واليوم ليست المسألة تقنية حديثة والتغزل بالشباب، فالتقنية والتعامل معها أصبحا أمرا مشاعا للجميع، وإدراك خيارات الإبداع أصبح متاحا لمعظم الأفراد، فالكمبيوتر موجود منذ أكثر من ثلاثة عقود في المجتمع أي قبل أن يولد أكثر من نصف الشباب السعودي فيجب التخلي عن وهم أنه عالم جديد، وتكرار جمل نمطية نتيجة عدم إدراك حراك الأجيال بدقة.



من أكبر الأخطاء التعامل مع فضاء النت كواقع منجز ونهائي وليس متطورا بسرعة، والفخ الذي وقعت فيه صحافتنا في العشر سنوات الأولى من مرحلة الانترنت أنها كانت تقليدية، فقراءة الصحف الكترونيا تتطلب جلوسك أمام جهازك الشخصي ولهذا كانت الصحف الورقية خيارا أفضل، وتوهم البعض أنه ما زال للورق عمر أطول قد يصل لربع قرن، لكن منذ انتشار الأجهزة الذكية اليدوية تغيرت المعادلة تماما، وتغيرت أنماط القراءة والتواصل بالنت، وانتقل الحديث عن الورق إلى التلفزيون التقليدي الذي يبدو هو الآخر في طور الاحتضار. هناك الكثير من الأفكار التي يمكن أن تنتشل هذه الصحف من واقعها.. لكننا لا نريد أن ندفع إلا على وظائف تقليدية ذات دوام حضور وانصراف. فيجب أن تبدأ خطة العمل لإنقاذ المؤسسات الصحفية بإلغاء التفكير الورقي من حساباتها، وإعادة تأسيس الاستثمار على هذا الفضاء والإنفاق المركز على التحرير، وعدم الاستهانة بصناعة مواد تحريرية منظمة بمختلف المجالات لصناعة شريحة قراء جدد يرتبطون بموقع الصحيفة، وقد فشلت تجربة الصحف الالكترونية الفردية ولم تستمر جاذبيتها إلا أقل من خمس سنوات حيث جاءت مواقع التواصل وألغت موضتها، لأنها صحف بلا محتوى تحريري قوي تتطفل على صناعة أخبار طارئة.



[email protected]