محاولة لاستعادة ابن المقفع

الأربعاء - 16 نوفمبر 2016

Wed - 16 Nov 2016

فرس النهر حيوان عاشب ضخم، يعيش في الأنهار والبحيرات في قارة أفريقيا، وتصوره الموجودات الأحفورية والمنجزات الحضارية والثقافية بأنه حيوان مقدس لدى بعض الأمم مثل الإغريق والفراعنة، كما تصوره الحضارة الحديثة في بعض منجزاتها الإبداعية حيوانا ودودا صديقا للإنسان.



إلا أن العلماء اكتشفوا حالات وحشية لفرس النهر، ومن ذلك لقطات مصورة تم توثيقها يهاجم فيها بعض الحيوانات الأخرى كالأسود والتماسيح، بل إن وكالات الأنباء بثت خبرا موثقا عن علماء متخصصين في علم الحيوان صوروا فيلما لفرس النهر وهو يأكل آخر، ويقول العلماء إن وحشية فرس النهر هذه ليست أمرا طارئا عليه، بل هي من صلب تكوينه الجيني، ولكن الناس لم يلحظوا ذلك سابقا.



قبل فترة، فاجأني هذا الخبر الصادم إذ لم أتخيل يوما أن فرس النهر- هذا الحيوان العشبي الودود - يتحول بين عشية وضحاها إلى قاتل؛ فقررت الذهاب إلى حديقة الحيوانات لمحاورته ووضعه أمام محك الحقيقة.



تقدمت من السياج الخاص به، ووجدته مستلقيا في حوض الماء الضخم الذي يبدو كنهر صغير وضع له خصيصا كيلا تلهبه الشمس الحارقة. رد علي التحية، حيث بدأ مزاجه «يفيق» تدريجيا، ودار بيننا حوار إيجابي حول تهمة أكل أفراس النهر لبني جنسها أحياء، لكنه أحرجني حين قال مدافعا: إنها تهمة باطلة، وماذا لديكم أيها البشر سوى الانشغال بأفراس النهر؟ اتركونا وشأننا ونحن نتدبر أمرنا، ألستم أنتم من جلبني من أقاصي أفريقيا لكي يتفرج علي أطفالكم في هذا المكان الضيق خلف هذه السياجات الحديدية؟!



ولأن لديه فكين ضخمين كافيين لالتهامي دفعة واحدة؛ حاولت تخفيف توتره الذي بدأ يتصاعد، فسألته عن راحته في الحديقة التي يعيش فيها، وأكد لي بأن كل شيء على ما يرام وأنه لا يفكر مطلقا بأكل أي أحد، في ظل توفر الأعشاب كوجبة رئيسة، لكنه ينام نهارا ويصحو ليلا، وكأنه يعيش غيبوبة طويلة تجاوزها بـ«الغناء» حتى أصبح محبوبا من رواد الحديقة وبعض العاملين بها، إلا أن لديه الكثير من وقت الفراغ؛ مما دفعه إلى التفكير بالانشغال بشيء ما، فما كان لديه من حل سوى أن يغني.



وحين سألته عن تقبل رواد الحديقة لصوته الذي يشبه صوت البوق، رمقني بنظرة مخيفة وقال بنبرة غاضبة: لا يهمني رأيهم، الأهم هو أن أمتع نفسي لأظهر كأهم فرس نهر في العالم. فقلت له: يا سيد قشطة، إنني للمرة الأولى ألحظ مدى هذه الحساسية المفرطة لدى أفراس النهر من الرأي الآخر، فقال بلغة الواثق من إمكاناته: وهل تقلل أنت من شأن أفراس النهر؟ ليكن في علمك أن كل أفراس النهر يحبون «الغناء»، ألم تسمع بقصيدة «بولكا فرس النهر» التي نظمها جدي «أبسكه الأول» حين كان أسيرا في حديقة لندن عام 1850؟



سألته دون قصد لإثارة غضبه: ولماذا لا تأتيكم هذه الأحاسيس إلا أثناء الأسر في حدائق الحيوانات؟ فغضب غضبا شديدا حتى ظهرت أنيابه الطويلة في فم يصل قطره إلى حوالي متر وفشلت كل محاولاتي لتهدئته، بل أصبح يهدد ويتوعد، وبعد صمت قلت له: إنكم يا «سيد قشطة» حساسون جدا، لا تقبلون الرأي الآخر ولا تحبون أن يواجهكم أحد بالحقيقة، وأدرت له ظهري مغادرا، غير آسف على ما اكتشفه العلماء من وحشية فرس النهر. وبعد كل ما سبق، أقول: إننا في اللحظات التي لا يمكن فيها استعادة التاريخ، نلجأ لاستعادة الأدب، وهذا ما حدث.