صالح عبدالله كامل

أبناؤنا والتنشئة الصالحة

السوق
السوق

الاحد - 28 أغسطس 2016

Sun - 28 Aug 2016

كنت أطالع واحدة من صحفنا المحلية اليومية، وعادةً ما أكتفي بقراءة العناوين والمانشتات الكبيرة حفاظاً على نعمة البصر التي متعني الله ومتعكم بها، ونوّر الله لنا جميعاً البصر والإبصار.. ولا أنكر أنني إذا ما شدني عنوان ودعاني لقراءة تفاصيله التي عادةً ما تكون في الصفحات الداخلية أو المبوبة، فإني أستعين بالله ثم بنظارتي، وأرفع من حجم إضاءتي.. ثم أذهب إلى حيث التفاصيل والتي عادةً ما تُكتب بخط صغير يحتاج فعلاً إلى عين مجردة، ولا أدري ما سرّ هذا الشح في حجم الطباعة للحروف، مع أني أفضّل أن تقل عدد الصفحات وتكبر الحروف على قلّة عدد الصفحات وصِغَر الحروف. لأن الواقع أن من يقرؤون الجرائد في هذا الوقت هو كبارُ السن، بحكم ما شافوا وقرؤا سنيناً طِوالا.. أما الشباب فقد أصبحت لهم وسائلهم الالكترونية من أجهزة لوحية لا تفارقهم ليل نهار..



وليست هذه ميزة كما يعتقدونها اليوم، لأنهم وقبل أن يبلغوا من العمر ما بلغنا وبزمنٍ كبير، سيكتبون مطالبين بزيادة أكبر في حجم الحروف.



وقد بات معروفاً مدى الأضرار التي تسببها هذه الألواح والأجهزة الالكترونية بالنسبة للبصر وللتربية.. وأعلم أنه في اليابان، وفي محلات بيع هذه الأجهزة.. وخاصةً (الآيباد)، يسألون المشتري: لمن هذا الجهاز؟ ولأنهم لا يكذبون فسيخبرون البائع بالحقيقة، وإذا اتضح أنها لطفل لهم دون الثانية عشرة من العمر، يعتذر البائع عن بيعهم الجهاز رغم أن عملية البيع هي مصدر دخله ورزقه، فإذا سأل الوالد أو الأم عن السبب، يقول البائع: أنا أريد أن أبيع جهازي لكم، ولكني لا أريد أن تبيعوا أنتم ابنكم للجهاز.. وتحرموه من حقه المشروع كطفل في البقاء معكم أطول مدة ممكنة حتى يتشبع من حنانكم وعطفكم ولا يُحرمُ من توجيهكم ولا تُحرمون أنتم من براءته وعفويته، فالأطفال هم أجمل وأغلى شيء وهبه الله لنا.. بينما نحن هنا، وإمعاناً في التفريط عزيزي القارئ في حق هذه الطفولة، نتفنن في اختيار كل الاختراعات التي تشغل أطفالنا عنا وتشغلنا عنهم، بحجة إلهائهم (ونريح روسنا من وجع الدماغ).



على كلٍ طالعت الصفحة الأولى من تلك الجريدة المحلية لأُصدم بعنوانين: «امرأة تقتل زوجها..» و»شقيقة تقتل شقيقها»، فانتقلت بسرعة إلى صفحة المحليات، لأُصدم مرة ثالثة بجريمة قتل ثالثة. والصادم فعلاً في الأمر، أمران، الأول: أن المدن الثلاث التي ارتُكبت فيها الجرائم هي من المدن الوادعة المعروفة منذ القدم بترابطها الأسري وتعاونها في السراء والضراء.. في إطار من التقاليد الأصيلة لديننا الحنيف.. والمدن الثلاث كلها من جهة الجنوب. والأمر الثاني أن القتلة كلهم عشرينيون – في العشرينات من عمرهم – قاتلة زوجها لم تتعد السادسة والعشرين، وقاتلة شقيقها في العشرين، والقاتل في الجريمة الثالثة هو في العقد الثاني من عمره!! وقد قتل شاباً في مثل عمره!! وقيل إن البنتين القاتلتين استخدمتا السكين.. بينما قُتل الشاب في الجريمة الثالثة بطلق ناري. وفي حالتين كان السبب الذي ذُكر «خلاف عائلي»، وأعتقد أن آخر وصف يمكن أن يُطلق على هذا الخلاف القاتل هو «خلاف عائلي» فالعائلة السعودية خاصةً والمسلمة عامةً، لم يكن خلافها بالسكين، يحدث عادةً خلاف حول إرث أو سلوك أو فكر.. ولكنه لم يكن في الغالب يصل إلى نصلٍ السكين.. ونحر الأقربين.



وهنا لا بد أن نطرح سؤالاً مهماً: ماذا يحدث لنا وفي مجتمعنا؟! حوادث من هذا النوع تحدث ولكنها تقع على فترات متباعدة وفي ظروف جدُّ معقدة وغامضة..



والسؤال الثاني: هل أدرك اليابانيون خطورة الانفصام العائلي والتفكك الأُسري، فاعتمدوا على عدم المساهمة في إذكائه والترويج له؟ هل أدركوا وهم من يخترع هذه الأجهزة، أن كل صناعة لا بد أن يكون معها حماية، وأن لا تكون على حساب الرعاية؟!



أؤلئك العشرينيون القتلة.. لا بد أنهم تسربوا من أحضان العائلة إلى لوحات التأثير المباشر المنفلت من كل القواعد.. ولا بد أنهم تعاملوا مع هذه الأجهزة ذات الحدين في سنٍ مبكرةٍ دون رقابةٍ أو توجيه.. إضافة إلى المشاهد التليفزيونية المحصّنة من الرقابة والتي تحوي كل عوامل تدمير الأسرة وتفتيت المجتمع، بكل ما تحمله من أثر سلبي على الروح وبالتالي السلوك.



في أمريكا ومنذ عدة عقود، قتل حفيدٌ في العاشرة.. أو قد يزيد قليلاً جدّه الذي بات يعاني من آلام شديدة وقد عَرف من خلال ما سمع أنه لم يعد بمقدور الطبيب أو الدواء شفاؤه من دائه.. أو تمكينه من المشي على قدميه.. وذات مساء كان يشاهد أحد الأفلام «الكاوبوي» ورأى أن أحد الأحصنة التي كان لها شأن كبير في سباقات الخيول، سقط في واحدة منها.. وكُسِرت ساقاه، التي هي أثمن ما يملك الفرس.. وجاء صاحبه بأمهر الأطباء البيطريين لعلاجه.. فقال الطبيب: للأسف لا يمكن أن يشفى.. فقرر «الكاوبوي» صاحبُ الحصان أن يطلق على الحصان «رصاصة الرحمة» وكان المشهد الأخير في الفيلم هو مشهد إطلاق الرصاصة على الحصان رحمةً به، حيث لا أمل في شفائه.



هذا الطفل الذي تابع هذا الفيلم، اختزن في ذهنه المشهد الأخير.. وحين تأزم وضع جده الصحي.. سارع إلى مسدس أبيه، وأطلق النار على جده فقتله، وذهب إلى والده صائحاً: لقد أطلقت على جدي «رصاصة رحمة»، فقال له أبوه: لماذا؟ فقال: لأنكم تقتلون الحصان إذا عجز عن المشي والحركة. فحاول أبوه أن يشرح له الفرق.. لكن بعد فوات الأوان.



ونحن نترك أولادنا وبناتنا مع الأجهزة والشاشات دون رقابة أو شرح.. مع أنهم في الغرب يصنعون الأفلام التي تحتاج إلى أن يشاهدها الطفل مع والديه، ولا يمكن أن يشاهدها منفرداً.. وفي اليابان، لا يبيعون الأجهزة للأطفال دون سن الثانية عشرة..



فكيف يجوز لنا نحن أن ننسى تعاليم إسلامنا المتعلقة بتربية أطفالنا وحمايتنا لنشئنا حتى يشبوا أقوياء في طاعة الله، ويبقوا قرة عين لنا وليسوا قتلة. وكيف نسمح، بل نُعين جهاتٍ وأجهزةً على التحكم في عقولهم، وتسيّرها في اتجاهات خاطئة لا تزيد العلاقات العائلية إلا توتراً، ولا تكسب المشاعر إلا مزيداً من التنافر، وكيف نحرم أحضاننا من دفء استضافتهم الملزمة لاكتمال رعايتهم، وسأظل أطرح دائماً هذا التساؤل: لماذا نسمح لعقولهم وهى في مرحلة النمو أن ترتبط بفكر شيخٍ زائف، أو تفكير جماعةٍ ضالة، ونحرم أنفسنا من أجر تنشئتهم نشأةً صالحة توفر لنا أولاداً صالحي الدعاء، ربما تشفع لنا يوماً دعوة أحدٍ منهم.