التاريخ والمغنى.. تحت مجنزرات الشركات الإنشائية!

الجمعة - 15 يوليو 2016

Fri - 15 Jul 2016

أمكنني هذا العيد الشوالي من عام 1437هـ من زيارة شعب الذيب (بكسر الشين) بعد زمن من الغياب وهو أحد المواقع التاريخية والبيئية المهمة في شمال مكة المكرمة ولا يبعد لأكثر من 30 كيلا عنها. تجولت في هذا الوادي بناء على معطيات تاريخية شفاهية أدركتها فوددت الوقوف عليه سياحيا ومكانيا، حيث يذكر شعب الذيب في الرواية الشعبية باعتباره جزءا من وادي الطرفا. ولكن ما أفزعني وأبرق بصري رؤية بتر وتبتير يتبطنان هذا الشعب، وقناة بطول 2000م تخترق الوادي مع شعبه، ثم تصحير متعمد وبقوة يشبه الانتقام إلى الله المشتكى!

لقد رأيت الشعب مطلع عام 1420هـ كان رائعا مهولا حرجي الشجر وجميلا متنوعا في منظومته الحياتية (وكنت وقتها أبحث عن بعض الشواهد المكانية والتاريخية واستطعت تسجيل وتوثيق قدر لا بأس به من الشواهد)، وبعد هذا التاريخ في عام 1422هـ رأيته وقد بدأت شركة إنشائية في تدميره وقطع الأحراج ويومها قلت: كيف استطاعت شركة إنشائية أو تعدينية.. إلخ أن تحصل على تصريح بتنفيذ هذا التصحير وهذا التدمير المنظم من أمانة العاصمة المقدسة! وكيف وافقت على هذا دون دراسة لتراثه الطبيعي ونظامه (الأيكويولوجي)؟ فلم أجد إجابة مقنعة تكفيني مؤونة التفكير واللوم! ولكني لم أقل اللوم والعتابا كما يقول جرير.

والأدهى أن تتكرر نفس المأساة عام 1435هـ ويتم تدمير جزء منه... فأين الجهات الرقابية عن هذه المأساة...؟ والله لا أجد لها تفسيرا إلا الرغبة والاجتهاد من قبل الشركة المنفذة في القضاء على تراثنا الطبيعي وتدمير موارد الطبيعية، فهل يهمهم هذا الأمر طالما هناك مصالح آنية يقبضون ريعها؟ أنا أعلم أن في كل محافظة لجنة سياحية تعتني بمثل هذه التجاوزات... فكيف اخترقت بهذا الشكل الجنوني؟ ونحن نعلم أن إمارة المنطقة تضع الاعتبارات الطبيعية ومواردها في مقدمة اهتماماتها ويشكرون على ذلك ولهم جهود ميدانية وكتابية وتوثيقية.

أخشى أن هناك تآمرا شديدا على شعب الذيب لمحقه من قبل هذه الشركة وإبادته حتى لا يقال إن هناك واديا جميلا بمقومات تراثية طبيعية يستحق الحفاظ عليه.. (فسحقا لهذا الجمال وأهله إذا كان سوف يعوق مصالحهم الآنية)، ودليل ذلك أنها عمدت لبناء (عقم) بارتفاع وامتداد مهول لحجز المياه وقتل النباتات قتلا رحيما بطيئا نظاميا.. حتى لا يقال هنا نبات! وسامحوني إن جفيت القول فلم أبعد النجعة.

وسؤالي كيف عاودت الشركة المنفذة نشاطها وبدون رقابة بيئية من أمانة العاصمة المقدسة رغم القرارات... لماذا لم تفرض الجزاءات عليها وترغمها على وقف نشاطها وهي إدارة اعتبارية لها وزنها الإداري والتنفيذي... ثم لماذا لم يتصد أهل شعب الذيب لهذا التدمير بشكل قانوني ويوثقون هذا التدمير، وأين هم من تاريخ واديهم...؟ ولو يكتب بشكل منهجي وعلمي حتى بعد هذه الكارثة (فهل تضيق بكحلها الأهداب) وربما يكون مقالي هذا هو آخر مقال يكتب.

لحسن الحظ ما زال شعب الذيب يحتفظ بقدر كبير من مقوماته الطبيعية ذات البعد الثقافي مع روعته وقوة جذبه البصري.. ونقاء هوائه وبعده عن مصادر التلوث، ففي كل أسبوع تقريبا يشهد نشاطا سياحيا محليا ومناطقيا بشكل عفوي.

أنا أتمنى قبيل إنهاء مقالي هذا أن توضح لنا لجنة التنمية السياحية بمنطقة مكة المكرمة دورها حيال هذه التجاوزات... ونحن نعلم أن هيئة السياحة والتراث الوطني تدرك وفق برامجها الواضحة والخاصة بالتطوير السياحي أن هذا مخل بأحد أهم مخرجاتها (السياحية البيئية)، وهذا الشعب جمع بين ثلاثة عناصر سياحية، البيئة والتراث الطبيعي، والموقع التاريخي لم تتوفر لواد غيره في تلك الناحية، فإن خسرناه والله لنخسرن عمقا ثقافيا لن نتعوضه... وثقتي لا حدود لها في صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان أن يولي هذا الشعب وواديه الفريد اهتمامه، وأن يحوله إلى موقع تاريخي وأثري جاذب لا طاردا (خاصة أنه شاهد على أحداث واسعة خلال القرن الثالث عشر)، وأن يوقف كل تلك الاعتداءات.. طالما ما زال محتفظا بمقدار 90% من بنيته التحتية وعناصره الثلاث الجاذبة.

ويحسن بي أن أختار بعض الأبيات من رائعة المتنبي في (شعب بوان) وهو يشابه شعب الذيب مع فارق التوصيف:

مغاني الشعب طيبا في المغاني

بمنزلة الربيع من الزمــــــان

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

طبت فرساننا والخيل حتى

خشيت وإن كرمن من الحران

غدونا تنفض الأغصان فيها

على أعرافها مثل الجمان