مطير سعيد الزهراني

البحث العلمي... لماذا لا يغير الواقع؟ قراءة في النضج المؤسسي

الاثنين - 08 ديسمبر 2025

Mon - 08 Dec 2025


يبدو السؤال بسيطا في ظاهره، لكنه من أكثر الأسئلة إزعاجا في قلب المنظومة التعليمية: لماذا لا ينعكس ما ينتج من أبحاث علمية في الجامعات على الواقع العملي بالقدر الذي نتوقعه؟ فبين قاعات الدراسات العليا، ومراكز البحث، وقواعد البيانات، يتراكم جهد معرفي كبير، بينما تبقى المسافة قائمة بين ما يكتب بعناية وما يمارس فعليا في المؤسسات.

هذا السؤال لا يطرح للتقليل من قيمة البحث العلمي، ولا للتشكيك في جدوى الجامعات، بل لفهم موضع الخلل في العلاقة بين إنتاج المعرفة وإدارتها، فالمعضلة لا تكمن في غزارة البحث، وإنما في الكيفية التي تدار بها المعرفة بعد إنتاجها، وهل تمتلك المؤسسة التعليمية من النضج ما يسمح للبحث بأن يغادر أوراقه إلى حيز الأثر.

في كثير من البيئات الأكاديمية، ينظر إلى البحث العلمي بوصفه منجزا يستكمل عند النشر، وتغلق الدائرة إداريا، وتستوفى متطلبات التقييم، ويحتسب الإنجاز بالأرقام، غير أن النشر، مهما بلغت أهميته، يظل مرحلة في مسار أطول، وحين يختزل الدور المؤسسي عند هذه المرحلة، تتوقف حركة المعرفة مبكرا.

ويتصل بذلك اختيار الموضوعات البحثية نفسها، فجزء من الإنتاج العلمي موجه باعتبارات التخصص الدقيق ومتطلبات التحكيم الأكاديمي، مما يؤدي إلى أعمال عالية الجودة داخل الحقل العلمي، لكنها أقل تماسا مع التحديات اليومية التي تعيشها المؤسسات التعليمية والتنظيمية، وهنا يظهر نوع من الانفصال بين ما هو مهم علميا وما هو ملح عمليا، وهو انفصال لا يحسمه الباحث وحده، بل تحسمه الرؤية المؤسسية التي توجه البحث.

وحتى حين تتقاطع الدراسات مع قضايا واقعية، تبرز عقبة أخرى تتعلق بمسار النتائج، فغياب الآليات الواضحة التي تنقل المخرجات البحثية إلى دوائر القرار، أو تترجمها إلى سياسات وإجراءات، يجعل المعرفة معلقة بين خطاب أكاديمي معمق، وسياق إداري يبحث عن حلول قابلة للتطبيق، وفي هذا الفراغ، يخفت أثر البحث دون أن يضعف محتواه.

وهنا يتبدى دور النضج المؤسسي بوضوح، فالمؤسسة الناضجة لا تكتفي بإنتاج المعرفة، بل تهتم بكيفية تشغيلها داخل بنيتها التنظيمية، وفي البيئات المرتبطة بها خارج أسوارها، فتنظر إلى البحث بوصفه أداة مراجعة وتحسين، وتتقبل ما يحمله من أسئلة، وتستثمر قدرته على كشف مواطن القصور، أما المؤسسة التي لم تبلغ هذا المستوى، فتميل إلى التعامل مع البحث بوصفه نشاطا معرفيا قائما بذاته، لا عنصرا مؤثرا في القرار.

وتنعكس هذه المعادلة على أطراف متعددة، يشعر الباحث أحيانا بأن جهده ينتهي عند النشر، وتفقد المؤسسة فرصة هادئة لتقويم مسارها، ويتشكل لدى المجتمع انطباع بأن البحث العلمي نشاط نخبوي محدود الصلة بالواقع، وهذه ليست نتائج مقصودة، لكنها تراكمات طبيعية لغياب رؤية واضحة لإدارة المعرفة.

وفي المقابل، حين يتقدم النضج المؤسسي، تتغير الصورة تدريجيا، فتدمج نتائج البحث في عمليات التخطيط والتقويم، وينظر إلى الباحث شريكا في التطوير، وتختبر الأفكار في تطبيقات محدودة قبل تعميمها، وعند هذه النقطة يبدأ البحث العلمي في أداء وظائفه كاملة، ويتحول من نشاط أكاديمي إلى مسار تأثير تراكمي.

ويبقى السؤال الأخير موجها إلى جوهر المنظومة لا إلى أفرادها: هل نملك داخل مؤسساتنا القدرة على إدارة المعرفة بعد إنتاجها؟ فحين تتوافر هذه القدرة، يصبح البحث العلمي جزءا من حركة التطوير، ويبدأ الواقع في الاستجابة خطوة بعد خطوة.

Drmutir@