بسمة السيوفي

جريمة صغيرة

الأربعاء - 10 ديسمبر 2025

Wed - 10 Dec 2025


المشهد كالتالي.. طاولة جانبية مربعة يرتكز طرفها إلى جدار قرميدي، ثلاثة كراسي تشتكي تعب الانتظار. مقهى شهير غير مزدحم على طريق الملك يتكون اسمه من أربعة حروف. دخل اثنان: شاب وفتاة. التقيا عند المدخل، ثم اتجها نحو الطاولة وجلسا. نزعت حبل حقيبتها «البرادا Prada» السوداء من كتفها ووضعتها بحرص على الكرسي الثالث. الترتيب الأنيق ربما يخفي فوضى مؤجلة. رمقني الشاب متفحصا فور جلوسه من وراء كتف الفتاة ثم رد بصره إليها. ملامح شبابية ولحية أنيقة، نظارته ذات إطار أسود عريض. كان موقع جلوسي ممتازا للرؤية، وسيئا جدا لاحترام الخصوصية، لكن من قال إن الصدف دوما تراعي الذوق العام.

خرجت فقط لأراجع تقريرا دسما في مكان هادئ، فإذا بالمشهد يحدث أمامي مباشرة؛ فتاة في عمر طالباتي، وشاب يمكن أن يكون ابن صديقة. وصلت القهوة ومعها قطع من الشوكولاتة. ناولها واحدة، وانساب الحوار بهمس وضحكات خفيفة، فيما كانت عيناه تلاحقان رشفات فنجانها صعودا وهبوطا.

ومن مكاني، قرأت إشارات لغة الجسد كالخبراء المخضرمين، كأني أتابع اجتماعا لمجلس الأمن. ورغم محاولاتي إقناع نفسي بأنها مجرد فضفضة بين اثنين في مساحة آمنة للحوار وسط التشويش الاجتماعي، إلا أن «لقافتي» كانت تسبقني.

كنت أتساءل بينما الفتاة تدير دفة النقاش وملامح «أخينا» مشدودة كالمغناطيس: ما مستوى الثقة في العلاقة الإنسانية بينهما؟ ما زلت لا أرى وجهها، فقط ظهرها والعباءة المخططة بالأبيض التي ترتديها. ثم خفتت الأصوات فجأة، وتحول المشهد إلى وشوشة متقطعة بينهما، سمعته يقول «جس نبض، إنت اللي اخترت، ماني زعلان، أنا حاسس بيك، لا تشيلي هم». وسمعتها ترد «الوقت بيضيع، حط بينك وبين النار شيخ، ماني عارفة أشتغل، أبغى أحنن قلب أمي، أنت سند دايم».

من زاويتي لمحت طرف وجهها: شابة في العشرينات، بشرة فاتحة، رموش لاصقة، مكياج متقن، ويد تلمع بالأساور. أخذ الشاب رشفة من «الكابتشينو أبو 18 ريالا»، ثم استأنف حديثه عن عمله بثقة مفرطة قليلا، يكرر أنه من أولئك الذين ينحتون في الصخر. أومأت الفتاة سريعا كأنها تستعد لإخباره بأشياء أكثر.

ثم انقطع المشهد فجأة: سقطت الملعقة من يدها على الأرض بصوت حاد، فتوقفا لحظة، تبادلا نظرة سريعة، ثم ابتسما كأن شيئا لم يحدث. أدركت أن ما أراقبه ليس لقاء عاطفيا بحتا، إنما مرآة اجتماعية لحدث اعتيادي وأناس عاديين. عموما، يجب أن أعترف أن المقهى، بوجودهما تحديدا، أصبح أكثر تشويقا وحماسا، ولا عزاء للتقرير.

حانت لحظة الوداع، حمل جواله ومفاتيحه ثم وقف وربت على كتفها، لكنه تردد جزءا من الثانية قبل أن يلامسها؛ فالمكان عام، والحيز مكشوف. غادر قبلها، بينما بقيت جالسة في مقعدها. ربما كان أحد أقربائها، أو زميلا في العمل، وربما صديقان... لا أدري إن كانت صداقة الرجل والمرأة ممكنة خارج قوالب الحب والزواج والمصلحة؟!

راقبته الفتاة وهو يغادر نحو سيارته من خلف الزجاج. تابعته بعينيها كأنها تودعه، لكنه لم يبادل الزجاج نظرة واحدة. بقيت في مكانها تتصفح هاتفها لدقائق، ثم أغلقت الشاشة فجأة، كأنها حسمت الأمر. نهضت بعدها وشمس المغيب تودع السماء. تقدمت باتجاه الكرسي الفارغ لتدفعه قليلا كأنها تعاتبه على صمته، ثم استدارت لتتقاطع نظراتنا على الفور.

ابتسمت لي بكل احتواء، وأنا فضحتني عيناي، فقد ارتبكت كالمجرمين أمام هيئة التحقيق، رغم أني لا أحمل أي سلاح للجريمة.

تهربت بمحاولة التركيز على فنجان «اللاتيه» والأوراق التي بين يدي. كانت ثواني من الحوار الصامت بين فوضى رأسها وأفكاري التطفلية؛ فقد اخترقتني نظرتها، وتركتني معلقة بلا مشابك على حبال أسئلتي: ترى ما حكاية الخسارات، وكيف سيقي الشيخ الناس من النار، ومن هو السند... وكيف ستطيب خاطر أمها؟

جريمتي الصغيرة هي خلط الفضول بالفضيلة، والتورط الوجداني أكثر مما ينبغي؛ فكيف تبنى الأحكام على نصف جملة وربع حركة في زمن يعيش فيه الجيل بين صورتين: واحدة يعرضها على الناس، وأخرى يخفيها عن نفسه؟ والناتج؛ سلوكيات مرتبكة لا تعي مفهوم الحرية والثقة والمسؤولية أمام الله والمجتمع.

كلنا، بشكل ما، نمارس الفضول ونتظاهر بالتقوى، وأحيانا نراقب الآخرين لنطمئن أننا أفضل منهم. وفوق كل هذا، لا نحتمل المشاهد الناقصة؛ فنطارد بدايات الحكايات ونهاياتها، ونملأ الفراغات بخوفنا وتوقعاتنا، ثم نضع ساقا فوق الأخرى ونلوم أصحابها.

هدأ المكان عند الغروب فجأة، وبدت كأنها تستعد للمغادرة، ثم توقفت قليلا لتعدل وضع الكرسي الفاصل بيننا، كأنها ترتب المسافة بينها وبين نفسها. بقيت في مكانها تتمتم بكلمات غير مسموعة، ثم استدارت نحو الجدار القرميدي، ثبتت طرحتها البيضاء بعناية، ورفعت كفيها بهدوء وقالت: الله أكبر.

smileofswords@