وليد الزامل

مجتمع الزبالين

الأحد - 07 ديسمبر 2025

Sun - 07 Dec 2025



تناولت رسالتي لمرحلة الماجستير موضوع «تقييم تجارب الحكومات في التعامل مع المستوطنات العشوائية في الشرق الأوسط»، وفي ذلك البحث حاولت إجراء مقارنة تحليلية لبعض حالات المناطق العشوائية في مصر. لم يكن الهدف من المقارنة فهم التكوين المادي للمناطق العشوائية فحسب؛ بل استيعاب السياق الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات العشوائية كمدخل لوضع حلول مبتكرة.

أثناء قراءاتي الواسعة حول المناطق العشوائية في العالم برزت العديد من الدراسات والبحوث التي تناولت أفكارا عديدة، والقليل منها يؤكد على استيعاب دور المناطق العشوائية في ردم الفجوة الإسكانية واستنباط الدروس المستفادة من المناطق العشوائية في سياق الإسكان. عبرت هذه البحوث بجلاء عن الأسباب الكامنة وراء نشوء المناطق العشوائية بما في ذلك عجز مخزون الإسكان أو برامج الدعم الذي يتلاءم مع حدود القدرة الاقتصادية لمحدودي الدخل.

قرأت عن مجتمع الزبالين في القاهرة لأول مرة منذ أن كنت طالبا في المرحلة الجامعية بداية من مقرر التجديد العمراني مع أستاذ التخطيط العمراني أحمد كمال الدين عفيفي. وساعدتني هذه القراءات لاحقا على تبني مسار بحثي في مرحلة الماجستير قائم على مقارنة أنماط المناطق العشوائية اجتماعيا، واقتصاديا، وعمرانيا. ثم توسعت في مرحلة الابتعاث في مناهج تطوير المناطق العشوائية من منطق فهم المجتمعات بديلا عن وضع الحلول المجردة عمرانيا. وعودة إلى مجتمع الزبالين الذي يمثل نموذجا للعلاقة المعقدة بين الاقتصاد المجتمعي والعمران، فعلى مدى عقود طويلة عبر الحي عن قدرة المجتمعات في خلق أنظمة اقتصادية واجتماعية متكاملة.

تعود جذور مجتمع الزبالين إلى عقود طويلة حين تدفقت موجات من السكان والمهاجرين إلى منطقة منشية ناصر في القاهرة. وفي ظل غياب البدائل الإسكانية وغياب الدعم المؤسسي، استطاع هؤلاء السكان تنظيم حياتهم بطريقة فريدة، فاعتمدوا على اقتصاد التجميع والفرز وإعادة التدوير للنفايات. في الحقيقة، لم يكن هذا الاقتصاد بدائيا كما قد يعتقد البعض؛ بل كان منظومة اقتصادية متكاملة تبدأ من جمع النفايات من مختلف أنحاء القاهرة، ثم فرزها وتصنيفها، حتى بيع المواد القابلة للتدوير إلى المصانع. عملية نقل النفايات كانت تتم بوسائل بسيطة، مثل عربات الحمير (الكارو)؛ لأن شوارع الحي غير ممهدة. وعند وصول النفايات إلى الحي، يعاد توزيعها داخل المنازل والغرف المخصصة للفرز، حيث تتنوع المواد بين تلك القابلة للتدوير مثل الزجاج والأوراق، إلى المواد العضوية التي يتم فرزها بعناية وإزالة أي شوائب أو أكياس بلاستيكية حتى تستخدم كأعلاف لتغذية الخنازير. شكلت هذه العملية في حد ذاتها دورة اقتصادية متكاملة، فالموارد القابلة للتدوير تباع لمصانع التدوير، أما الخنازير فكانت تباع للفنادق الراقية أو تباع للاستهلاك من قبل المجتمعات غير المسلمة.

أرى أن مجتمع الزبالين قائم على اقتصاد دائري تم ابتكاره من قبل المجتمع، وذلك حتى قبل أن يصبح هذا المصطلح رائجا في نظريات التنمية المستدامة. وأن ما يميز هذا النموذج أنه لم يكن قائما على تخطيط حكومي أو حلول ارتجالية تتجاهل عادة النسق الاقتصادي الذي يضمن استمرار حياة السكان. استنباط المخطط العمراني لهذه الحلول أمر بالغ الأهمية، فالمدن ليست مباني وطرقا؛ بل منظومات اجتماعية واقتصادية معقدة. وهكذا فالتنمية العمرانية لا تبدأ بفرض النماذج الجاهزة أو التجارب العالمية دون فهم السياق المحلي واحتياجات المجتمع.

باختصار، المدن لا تحيا بلا اقتصاد، والمجتمعات لا تستمر بلا منظومة اقتصادية، وقبل ذلك فالعمران لا يرتقي بلا مجتمع فاعل.