زيد الفضيل

وتعيها أذن واعية

السبت - 16 مارس 2024

Sat - 16 Mar 2024


كان ولا يزال زيادة مساحة الوعي بدلالات الأشياء ومعانيها ومآلاتها ضمن جنبات تفكيرنا، من أهم قواعد المعرفة الربانية أولا، والعلمية ثانيا، فالله في محكم كتابه قد شدد على أهمية ذلك في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله تعالى {وتعيها أذن واعية} أي حافظة سامعة، عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتابه المحكم، بعقل راجح، وفهم عميق.

وفي قناعتي فإن ذلك لن يتأتى إلا من خلال زيادة مساحة التفكير ضمن نطاق أدواتنا المعرفية، والتعمق في دراسة منهج التحليل والتأمل والتدبر، وإثارة أسئلة الدهشة والحيرة، إلى غير ذلك من أدوات المعرفة العقلية، التي يمكنها أن تحفز وتستثير مكامن الوعي في دواخلنا بوجه عام، وفي حينه سندرك بداهة ألا فائدة من الانسياق وراء دعوات حروب الإلغاء التي يدعوا لها البعض، وأن الفكر لا يواجه إلا بفكر، والمعرفة بحكمتها وعمقها ودلالاتها ومآلاتها الإنسانية ضالة كل عاقل.

على أن الوعي وإن كان حالة ذهنية متقدمة، لكنه سلوك أخلاقي قبل ذلك وبعده، فالحكم على الأشياء بتسرع، وتكوين وجهة نظر قاطعة في أي مسألة دون إعمال التدبر، هو من الخطأ الجسيم الذي أهلك الناس قديما وحديثا.

والعرب قد تميزوا بهدوئهم وآناتهم قبل إصدار أحكامهم، فربما كان للصورة تكملة لم يرها أحدنا، ولم يعرف خلفياتها، وبالتالي يكون قد تسرع بحكمه، وفقد حالة اتزان وعيه بالأشياء والأحداث، ولا ينفع الندم حين لات مناص.

في هذا السياق أشير إلى قيمة وعظيم تربية العلماء الربانيين من أهل الله لخاصتهم ومن يلوذ بهم، فتراهم يتحرجون من الحكم على أحد بمجرد النظر في مظهره، وصدق رسول الله وهو القائل: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره». وحتما فذلك أول درجات الوعي، حين لا تقاس الأشياء بالمظاهر وإنما بالمخابر كما يقال.

فالمظهر لم يكن في يوم من الأيام دليل على قيمة الإنسان، وإنما ما يحمله المرء بين جوانبه من سلوك نبيل، ومعرفة صادقة، وأخلاق نبوية زاكية، وفهم عميق لدلالات الأشياء والمعاني والتي تجعله هادئا في قوله، متأنيا في حكمه، وتلك كانت ولم تزل صفة الحكماء والصالحين من أهل الله الذين جمعوا بين علم الشريعة والحقيقة، فانضبطوا بميزان الفقه الدقيق وأحكامه المستندة إلى المحكم من قول الله والصحيح من سنة نبيه، وتوازنوا بالذكر النبوي الذي أوقد في دواخلهم نور، هو من نور الله ورحمته، فتراهم بسطاء تعلوا قسمات وجوههم السماحة واليسر، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم الذي ما خير في أمر إلا اختار أيسره، وما استشاره أحد إلا أدخل إلى قلبه السعادة ويسر أمره، وكان سهلا، لينا، حسن الظن، مقدما للخير، وداعيا إلى محاربة الشيطان ووساوسه التي توعد فيها العباد، ليظلهم عن سبيل الله، ويحيل حياتهم إلى نكد وجحيم، فيستبدلوا يسر الله ورحمته بتعسير الشيطان ونقمته، وحاشا أن نكون من أولئك.

أسوق ما سبق ونحن في شهر رمضان، شهر القرآن، الذي بقدر ما يتلوا فيه المؤمن كتاب ربه الكريم، بقدر ما يجب أن يتأمل فيه ويتدبره، ليستفيد قدر استطاعته من إشعاع الذكر المنير، ويتضوع فؤاده بالحكمة والقصص المبين، فيؤسس في داخله أول لبنات الوعي الذي يعني العلم بالمسموعات، مصداقا لقوله تعالى {وتعيها أذن واعية} أي تلك الأذن التي تغوص في دلالات الخبر المسموع، وتتوسع في رحاب أروقة ما سمعته، وكل ذلك لمن استطاع سبيلا، وملك القدرة على ذلك، أما من عجز عن إدراك مضان ما سمعه وقرأه، فالنجاة في توقفه بحسن ظن، وأن يلوذ بصمته لينجو بقلبه، قبل أن يُثقل نفسه بأعباء لا طاقة له بحملها حين لات مناص.

zash113@