بشرى فيصل السباعي

ضرر كثرة التحذير

الأربعاء - 13 مارس 2024

Wed - 13 Mar 2024

ذكر وزير الإعلام السعودي الراحل الدكتور محمد عبده يماني موقفا له مع مواطن رآه في حالة سكر وعربدة في الخارج، فحاول نصحه فرد عليه بالقول «هي خربانة خربانة» طالما لا مفر من الذهاب لجهنم فالأفضل أن يستمتع بأقصى ما يمكنه، فرد عليه بسؤاله عمن قال له إنه لا مفر من الذهاب لجهنم؟

فرد الرجل بأن المشايخ يقولون إن كل شيء حرام وكل شيء سيجعله ينتهي إلى جهنم، وهذا جعله لا يبالي بارتكاب المعاصي.

هذا الأثر السلبي للإفراط في التحذير حصل أيضا في المجال الطبي؛ فكثير من الناس عندما يتم نصحهم حول الضرر الصحي لشيء ما يسبب مرضا خطيرا كالسرطان يقولون «كل شيء يسبب السرطان»، ولذا ما عادوا يبالون وذلك بسبب الإفراط في التحذير الطبي حول السرطان، والعلماء الذين درسوا تأثير الحملة المكثفة التي جرت للتحذير من تعاطي المخدرات في ثمانينيات القرن الماضي تفاجؤوا من أن نتيجتها كانت زيادة تعاطي المخدرات؛ ولذا تم إيقاف الحملة، وكان سبب زيادة التعاطي أنها أوحت للجمهور بأن تعاطي المخدرات شيء يفعله الجميع بسبب كثافة التحذير وإزالة حاجز الغربة النفسية عن التعاطي.

ولذا حتى في مجال الوعظ الديني كره الفقه ما سموه «وعظ القصاصين» الذي يعظون الناس ويحذرونهم من المعاصي بذكر قصص توبة العصاة؛ لأن كثرة التحذير بقصص العصاة يكون له أثر المجاهرة بالمعاصي أي إزالة الحاجز النفسي عنها، وخلق انطباع بأن الكل يفعلها مما يؤدي لتهوينها في نظر الناس وبالتالي يجعلهم أكثر قابلية للوقوع فيها.

إن أثر كثرة التحذير هو ذاته أثر انعدام التحذير؛ فالتحذير في أي مجال هو كالدواء الذي يجب أن يكون بجرعات قليلة مقننة، وكثرته مثل كثرة الدواء لها أضرار تفقد الإنسان أي فائدة لتعاطيه، لكن الناس مولعون بكثرة التحذير من كل شيء ليس بسبب شدة حرصهم على مصلحة الآخرين بقدر ما هو إشباع لنزعة غرور النفس في إرادة أن تكون بمكانة الفوقية النرجسية الأخلاقية التي تلقن الآخرين الصواب.

والبديل الأفضل للتحذير وكثرته وأضرار كثرته هو ذكر البدائل الإيجابية بدلا من التحذير من السلبيات، وعلى سبيل المثال كثرة التحذير مما يسمى فتنة النساء -الفتنة لغة امتحان المعدن للتأكد أنه أصلي ومنه قولهم فتن الذهب بالنار، أي تمتحن حقيقة الرجال- أدى لأثر معاكس للمطلوب وزاد الشبق والهوس بالنساء والسلوكيات العصابية تجاههن، وهذا واضح من فرط تمحور الخطاب الديني حول النساء مما أدى لقوانين تضطهدهن بالمنع من التعليم والعمل وحرية الخروج من البيت والتنقل لمنع «الفتنة» وجعل تواجد أي شخصين من الجنسين يوحي لهما أنهما لابد أن يقعا في الفاحشة؛ لأنه تمت برمجتهما أنه لا يمكن أن تكون هناك أية معاملة أو تواجد للجنسين معا لغير الجانب الغرائزي الشهواني، وثبت هذا الأثر في دراسات على مجتمع الأميش المسيحي ومجتمع الحريديم اليهودي، وكلاهما منغلق معزول ومتعصب ضد النساء ويفرض عليهن الحجاب والعزل عن الرجال، حيث وجدوا أن نسبة العلاقات المحرمة فيهم أكبر من نسبتها في المجتمعات المنفتحة المحيطة بهم، والبديل عن كثرة التحذير من فتنة النساء نشر الفلسفة الأخلاقية عن أن الإنسان كائن راق له طبيعة عليا تسود على الطبيعة الغرائزية ويمكنه النظر إلى الجنس الآخر بمنظور غير غرائزي شهواني إنما إنساني يرى فيها الآخر ليس كشهوة تمشي على قدمين إنما إنسان مثله يمكنه التعامل معه بشكل غير شهواني تماما كما يتعامل مع أفراد عائلته من الجنس الآخر، فهذا المنظور سيكون وقاية وحصانة من كل ظواهر التحرش والسلوكيات السلبية في العلاقة بالجنس الآخر واضطهاد النساء.

حتى كثرة العقوبات لها ذات الآثار السلبية لكثرة التحذير؛ فالطفل الذي يكثر أهله معاقبته أو ضربه يفقد الرهبة من العقوبة ويتبلد تجاهها لتعوده عليها، ولذا يقول علماء النفس «إن التهديد بالعقوبة أكثر فائدة من إيقاع العقوبة بشكل مكثف»، فكل شيء في الحياة ليكون نافعا يجب أن يكون مقننا ولا يكون مرسلا بشكل يجعله مفرطا؛ فحتى التدين زيادته عن الحد المقنن ليس زيادة بالخير إنما حذر النبي منه «هلك المتنطعون. قالها ثلاثا» رواه مسلم.