زيد الفضيل

الرحلة من علم اليقين إلى حق اليقين

السبت - 09 مارس 2024

Sat - 09 Mar 2024

كلما تلوت سورة التكاثر أتوقف مليا عند قوله تعالى {كلا لو تعلمون علم اليقين، لترونَّ الجحيم، ثم لترونَّها عين اليقين، ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} وأتساءل بتأمل: وما علم اليقين وعينها التي أشار الله إليهما في كتابه؟ وكيف يصل أحدنا إلى علم وعين اليقين وصولا إلى حق اليقين كما يقول العلماء من أهل الله؟

أسئلة أخال أنها تتردد على كل ذي لُب يهوى بلوغ كمال صفاء روحه، ونقاء سريرته الإيمانية، ولا سيما ونحن مقبلون على شهر رمضان الذي تفتح فيه أبواب السماء رحمة ورهبة؛ رحمة لكل من أناب وتقرب إلى الله بالطاعات، ورهبة لكل من تجبر وعصى، وأفضل الطاعات ما كان في حق العباد، وأشدها ثقلا ووطأة على النفس ما كان أيضا في حق الناس، وليت كل مسؤول وتاجر يدرك ويعلم أن المفلس الحقيقي من جاء يوم القيامة وقد أدى كل صلاته غير منقوصة، وصام كل فرائضه بإتقان، وحج واعتمر مرات عديدة، ولكنه أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيعطي الله من حسناته هذا وذاك، حتى إذا فنيت حسناته ولم تقض ما عليه، أخذ الله من سيئاتهم وطرحها عليه، ثم يُكب في النار خاسرا كما جاء في الحديث النبوي الصحيح.

إذن هو العمل الصالح، والمعاملة الحسنة، والصدق في الأقوال والأفعال، وكف الأذى عن الناس قولا وعملا، وجبر الخواطر، وتفريج كربة إنسان، وغيرها من الباقيات الصالحات، مع التزام ذاتي بما أمر الله به من عبادات، هي التي ستنقذ الإنسان من هول المحشر، وستكون ونيسا له في يوم يفر المرء فيه من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. وهي المعينة له ليدرك بعض جوانب علم اليقين وعين اليقين وصولا إلى حق اليقين، وطوبى لمن سلك وارتحل، وأدرك ووصل.

أشير إلى أن مفهوم أكل مال هذا في الحديث الشريف ليس قاصرا على سرقة مال أو نهبه، وإنما الأمر متعد ليشمل كل من لم يقم بعمله على أكمل وجه، فالموظف المتهاون في عمله يكون قد أكل مالا دون وجه حق، والتاجر المقصر في خدمته للناس ويعمل على استغلالهم بما لا يجوز ويصح يكون قد أكل مالا لا يستحقه، وكلاهما سيفرح في الدنيا قليلا، لكنه سيندم حق الندم حين لات مناص.

في جانب آخر أشير إلى آفة الآفات وهو اللسان، وما أكثر ما نقع فيها تهاونا حين ترديدنا لمعلومات غير دقيقة في حق أحد أو مجموعة أو طائفة، لنتحدث به وكأنه علم اليقين، وتلك هي الكارثة بعينها المؤدية للجحيم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بما سمع».

في هذا السياق، قرأت مرة قول أحدهم: «حتى نكون قادرين على استنطاق القلب، علينا أولا إسكات اللسان، وحينما يسكت اللسان، يتأهب القلب للكلام، فكلام اللسان محدود، أما كلام القلب فبلا حدود، ومجال كلام اللسان عالم الشهادة، أما مجال كلام القلب كل العوالم، وما أجمل العبور من سر اللسان إلى سر القلب».

ما أعمق هذا القول لمن تأمل، وجدير أن يأخذه كل أحد بجد ويقين، فاللسان آفة الآفات، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل في حديثه مع معاذ رضي الله عته حين قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فأخذ لسانه وقال: كُفَّ عليك هذا، فقال معاذ: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فأجابه رسول الله: وهل يُكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».

أخيرا، قال العلماء من أهل الله: بأن علم اليقين هو إيمان العقل، وهو ما نحن عليه حاليا، فلا أحد يمكن أن يكفر بالله عقلا إلا المكابرون؛ وعين اليقين متمثل في انكشاف إيمان القلب، وهو ما نرجو بلوغه ونعمل على توثيقه في صدورنا، ولا يتأتى ذلك على أكمل وجه إلا بالسياحة في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشمائله المحمدية، والتي كان لها الدور الأسمى في تثبيت سمات طيبة في نفوس كثير من جيلي ممن حظي بالجلوس في محاضر الذكر النبوي؛ وأما حق اليقين فهو انكشاف إيمان الروح، وهي أسمى الدرجات وأعلاها، وصدق المولى جل جلاله في قوله: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. ورمضان كريم.

zash113@