علي المطوع

الأغنياء والثقافة

الاحد - 17 ديسمبر 2023

Sun - 17 Dec 2023


الكتابة ليست حقا حصريا لفئة دون فئة، هي عملية مشاعة للفرد؛ يكتب ما يشاء وقت ما يريد، قد تضيق المنابر الرسمية والمعتبرة عن احتواء كل هذا الكم من الكتاب، لكن الإعلام اليوم بوسائله المختلفة؛ أصبح قادرا على تصدير عشرات الكتاب في الدقيقة الواحدة، كل ما عليك أن تكتب والمنابر موجودة للاحتفاء بما ستكتب، وربما تفعل الأساليب الخوارزمية أفعالها المريبة فيصبح هذا المقال لذلك النكرة من الكتاب الجدد في ذروة القراءة والمتابعة، كيف لا وهو يتمتع بعدد غير محدود من المتابعين الذين كانت مهمتهم تبدأ وتنتهي في آن واحد، وذلك بمجرد الضغط على رابط المقال لتبدأ بعدها تلك اللعبة الخوارزمية المقيتة!
لكن هناك سؤال يتردد عند البسطاء من الناس، لماذا يعمد بعض الأغنياء إلى تلميع أنفسهم من خلال بعض المقالات التي ينشرونها هنا وهناك؟، لماذا يحرصون على تصدير ذواتهم من خلال مقالة مهلهلة في أكثر الأحيان بعيدة عن العمق الثقافي الذي يأخذ القارئ إلى تلك الفضاءات الفسيحة من العلم والفكر والمعرفة؟!
الجواب يكمن في شخصية هذا الغني الذي استطاع بماله أن يحصل على كل شيء وأن يجد الأبواب مشرعة لاستيعابه كتاجر وناشط ومؤثر وفاعل خير، لتبقى أمامه أبواب الثقافة موصودة حتى يأتيه البشير بأنه قد آن الأوان أن يكون مؤلفا وكاتبا وخطيبا لا يشق له غبار.

هذا الغني يبدأ الكتابة بمقال استثنائي صنعه محتاج في إحدى النواحي القصية، مقال متماسك في لغته وأفكاره وجماليات سرده، فيه عمق الفكرة وجمال الصورة وحسن التصور، والعنوان يكون عادة رنانا بشكل يجعل رفاق درب هذا الغني يتساءلون عن تلك الفصاحة المتأخرة التي استوطنت لسان وقلم هذا الغني، والتي لم تكن معروفة عنه من قبل، ولكن أكثرهم نفاقا وسطوة على الكذب يقول: لا تستغربوا يا قوم فالنابغة الجعدي نظم الشعر كبيرا!
ينشر المقال ويصبح عنوانا جذابا للقراء الذين يحتفلون بصاحبه قبل أن يقرؤوه، ورسائل (الواتس أب) تطير بالمقال من مجموعة إلى مجموعة، ومن شخص إلى شخص في محاولة لتلميع هذا الغني وزيادة مساحة تأثيره كمثقف عصري استوى على جادة الفكر ليكون عراب مرحلة جديدة في مجتمعه الصغير.

قبل المقالات يكون هذا الغني قد دشن حسابا في تويتر سابقا، (إكس) حاليا، ثم استقدم أحد العارفين بقواعد اللغة و فنونها ليصيغ له الحكم والدروس والعبر، تجد في تلك التغريدات الحكمة والصرامة والأسلوب الحسن وكأنك أمام عقاد جديد في ثوب مغرد عصري حكيم يغرد عن الإنسانية واحتياجاتها ويواكب مستجدات العصر ومتطلباته المختلفة، هذا المغرد الذي يكفله هذا الغني معاشا وإقامة، تكون مهمته البحث عن العبارات الراقية ولصقها على تلك المنصة مستخدما علامات الترقيم في الكتابة وخاصة الفاصلة المنقوطة التي تعكس دربة هذا الغني ودرايته بالكتابة وأساليبها المختلفة!
ثم يأتي بعد ذلك فكرة تدشين صالون ثقافي برعاية هذا الغني ودعمه، وتتحقق الفكرة وتبدأ فعاليات هذا الملتقى الأسبوعي بمأدبة عشاء فاخرة للضيوف، وتحت قاعدة دسم البطون تستولي على العقول، تأتي الجلسات المتتالية ويتم النقاش فيها عن الثقافة والفكر وأساليب تطويرهما في المجتمع، يتجادل أصحاب الرأي أمام صاحبنا الغني ويتابعهم مبتسما ومركزا، لا لأنه يفهم ويعي ما يقولون، بل لأنه (كالأطرش في الزفة) يرى ولا يسمع يبصر ولا يستبصر.

ثم تأتي كلمة الختام التي تكون لصاحب المأدبة الغني المثقف المفكر، الذي يستهلها بالحمد والشكر والثناء على الواحد الأحد وهو آمر محمود ولا شك، ثم يعلق تعليقا سطحيا على بعض ما تمكن من سماعه وليس فهمه، ثم يطلب من المثقفين الحاضرين الذين ما زالوا يعيشون تخمة العشاء ولذته، استكمال الموضوع وإعادة بحثه في الأسبوع القادم، مذكرا إياهم وبخبثه المعهود، أن تدارس هذه الموضوعات سيكون بعد وجبة عشاء جديدة في نفس المكان والزمان!
بعد ذلك تأتي اللحظة الأخيرة من مسلسل النفاق الثقافي الذي يمارسه ضيوف هذا الملتقى، المؤلفة بطونهم قبلا بالمحمر والمشمر، يبدؤون بالتصفيق لصاحب التكية (الصالون الثقافي) ويدعون له بطول العمر ولبطونهم بطول الصحبة معه على موائده الفاخرة واللذيذة.

ينفض السامر بمن حضر، ويستدعي هذا الغني كاتبه السري ويأمره بتجهيز مقاله الأسبوعي ويكون موضوعه ما قاله هؤلاء الأفاضل الذين دسمت بطونهم وتم إشباعهم حتى ران الدسم على عقولهم، ولم لا يستفاد من كلامهم ليصبح متنا وهامشا لمقالة تطير بها الركبان، في مجموعات الواتس وفي منصة إكس، ليعاد تدوير صاحبنا الغني من جديد وإخراج أجمل ما ليس فيه؛ من حكم وعبر ورؤى وأفكار.



alaseery2@