خضر عطاف المعيدي

لغتنا العربية يا وزير التجارة!

السبت - 30 سبتمبر 2023

Sat - 30 Sep 2023

«اللغة جسر متين تغدو عليه وتروح قوافل الفكر...»
- خضر.

أصبح تعلم اللغات أمرا ضروريا وملحا للغاية في عصر يموج بالمعرفة وتنوع الثقافات والتي لا يمكن صهرها وإعادة قولبتها وفهمها إلا من خلال اللغة.

واللغات أشبه بالسحب الماطرة، فهي لا تحل بمكان واحد وتستقر به بل تنتقل من مكان لمكان، ولكن بانتقالها تجدب أرض وتزهر أخرى بحسب خصوبتها.

واللغة في مجملها جزء من هوية صاحبها لا تنفك عنه ولا ينفك عنها البتة كيف لا وهي التي أكل وشرب ونما بها بل ورأى المنامات والأحلام بها وأقسم بها وتزوج بها ودخل دينه بها، فهي متغلغلة في عقله الباطن ومن الصعب اجتثاثها من ذلك الموضع السحيق.

وفي كل رقعة من الأرض نجد من يتغنى بأفضلية لغته ويرفعها لتكون لغة سماوية وليست أرضية ففرض فرضا بأنها «توقيفية» وأنها وحي لا مجرد تواضع، وكل ذلك لغيرتهم الشديدة على لغتهم.

بل إن الغيرة على اللغة قد وصلت بالرئيس الفرنسي السابق «ميتران» أن يسن قانونا في 23 فبراير من عام 1994م يحمي به الفرنسية من اللغات الأخرى خصوصا الإنجليزية وحصر جميع اللقاءات والمؤتمرات على اللغة الفرنسية وسن قانونا يجرم كل من يدرج في حديثه الفرنسي ألفاظا ليست من قواميس اللغة الفرنسية لتتراوح الغرامة ما بين 1000 إلى 20 ألف فرنك وكل ذلك من أجل تعزيز وإرساء قواعد الفرنسية لأجيال وأجيال وحفظها من أن تكون هجينا ممجوجا.

وحينما أتلفت بنظري يا معالي وزير التجارة أجد من اللوحات في شوارعنا ومتاجرنا ما يندى له الجبين ويشعرني بالقلق المستمر على لغتنا العربية والتي هي جزء من هويتنا وكينونتنا.

التفت يمينا فاقرأ «سويت وسور» فأنتظر لدقائق أحلل أي لغة هذه وما نظامها الصوتي وهي في وطن عربي والمخاطب عربي؟ أتأمل هذه الطلاسم وأنا دكتور متخصص في علم وظائف الصوت ولا أستطيع فك الشفرة المكتوبة على المتجر ثم أطرق قليلا وأقول لعله يريد: Sweet & Sour فكتبها «نقحرة» بتلك الحروف التي جعلت العنوان أشبه بطلاسم مشعوذ.

وأسير بسيارتي لتلفتني لوحة أخرى ولكن هذه المره عليها «ليون» ولم أفك شفرتها إلا بعد النظر لصورة الأسد بجانب الكلمة فعلمت أن قصده: Lion لكن خانته «النقحرة» في االتفريق ما بين الصوت المركب والصوت البسيط فظنه بسيط لا مركب فكتبه «ليون» بدلا من «لايُن» نقحرة.

ولوحة أخرى تلمع بـ «فرش جوس» وكأن قواميس العربية لا تحمل في طياتها لفظة «عصير» و «خالص» أو «طازج».

واللوحات التي تعج بهذه العبارات الممجوجة والمشوهة للغتين العربية والإنجليزية أكثر من أن تحصى.

والسؤال: من العميل الذي سيرتاد مثل هذه الأماكن؟

الجواب: إنهم عرب أقحاح.

بل والبائع بداخل أغلب هذه المحلات لا يفرق ما بين الصفة والموصوف في اللغتين، فلماذا هذا العنت في اللغة!

يعلم كل من درس اللغات واكتسبها أن هناك نظرية لغوية تسمى بـ Indirect Reinforcement «التعزيز غير المباشر» وهي نظرية تذهب إلى أن كل ما تشاهده وتلاحظه دون أن تتعلمه سيتغلغل لعقلك بعد حين ولو كان خاطأ ومن الصعب انتزاعه؛ لأنه سيتشكل في الدماغ وفق بنيته الصوتية والصرفية والاجتماعية وفق «أنموذج» دماغي يسمى اختصارا بـ E «المثال».

وهذه اللوحات المشوهة قد أخذت مأخذها في عقول الصغار والكبار بأنها عربية وليست إنجليزية فبات الطفل في المدرسة يقول «شبس» ظنا منه أنها عربية نقية ولا يعلم أنها «رقائق البطاطس» وليته قاله «تشبس» فهي الأقرب للإنجليزية فـ «شبس» لفظة أعرافية لا تمس للإنجليزية ولا للعربية بشيء.

تمنيت أنهم كتبوا اللوحات بالإنجليزية كما كتبها أهلها ومن ثم ترجموا ولم يعربوا كـ: Your Meal «وجبتك» فعلموا الجيل لغتين في آن واحد إن كانوا يهدفون إلى تثقيف المجتمع باللغة الإنجليزية -وأنا أعلم أن النية غير ذلك- لأني لطالما حادثت أغلب من في هذه المتاجر باللغة الإنجليزية فقال لا أجيدها.

نريد من جيلنا أن يفهم أن العربية لغة عالمية وهي لغة متصدرة للغات العالم في أنظمتها الصوتية والصرفية والدلالية وفي التعبير عن كل شيء، فالعرب لم يهملوا أدق التفاصيل اللغوية بل أشبعوها فقالوا للبن أول ما يحلب «صريف» وإذا ذهبت رغوته «صريح» وإن تغير طعمه «خامط» وإن تخثر «رائب» وإن اشتدت حموضته «حارِز» فهل هناك لغة في الأرض فصلت اللبن كما فصلته العربية ومن ثم يأتي بعد ذلك شخص لا يفقه من لغته شيئا فيكتب «فريش» وليت أن التشكيل والحروف قد خدمته لينقلها سليمة لا مشوهة أقرب «للثور» العربي لا للشيء «الغض اللين».