سليمان الهويسين

مزالق العمل في التنمية الشبابية

السبت - 08 يوليو 2023

Sat - 08 Jul 2023

كثيرة هي المبادرات الموجهة إلى شريحة الشباب، سواء تلك التي تستهدف تنميتهم أو علاج إشكاليات لديهم أو توظيف قدراتهم أو تقديم حلول تسهم في جعل حياتهم أفضل.

ومن خلال الملاحظة والمتابعة لهذا الحراك؛ فإن أغلب تلك التدخلات تقع في مزالق تحول بينها وبين تحقيق أهدافها، وتقصر بها عن إحداث الأثر المنشود، وتستهلك من الجهود ما يفوق الاحتياج الحقيقي.

هذه المزالق مشتركة في غالبها بين جل التدخلات التنموية التي تستهدف إحداث تنمية حقيقية في المجتمع؛ إلا أنها تظهر بوضوح وبشكل جلي في هذا المجال تحديدا -مجال التنمية الشبابية-، مما يستدعي التوقف والتأمل وإعادة النظر من قبل المعنيين بهذا المجال.

وهذه المزالق تتفاوت في مستوى تأثيرها على التدخلات التنموية الشبابية، وتختلف أيضا في رقعة انتشارها لدى العاملين في هذا الميدان، وتتباين كذلك في أشكال ظهورها وصور وجودها.

إلا أنها تتفق في جوهرها وفكرتها الأولية، وهذا مما يسهل التعامل معها ويعزز إمكانية تلافيها وتجنب الوقوع فيها، أيا كانت صورتها أو كيفيتها أو مساحة انتشارها.

ولعل أبرز تلك المزالق هو مزلق تحديد نطاق الشريحة المستهدفة ووضع الإطار الذي سيتحرك ضمنه.

بمعنى أن الحدود الفارزة لمن هو مستهدف بتوجيه التدخلات التنموية لها (كشريحة شباب) ومن هو غير مستهدف ليست واضحة بالقدر الذي يساعد على الفرز الصحيح، إما لهلامية تلك الحدود أو لأنها بنيت في الأساس على غير معيار صحيح ودقيق.

وهذا ما تحكيه المعايشة لهذا الميدان؛ فالغالبية الساحقة للتدخلات التنموية الموجهة للشباب تعتمد في تحديد الشريحة المستهدفة على المحدد العمري كمدخل للتعاطي مع هذه الشريحة، حيث تؤطر الشريحة بسن معينة تكون هي البداية وسن أخرى تكون هي النهاية.

وهذا المدخل محل نظر كبير، رغم أنه هو الأشهر والأبرز في هذا الميدان عموما لدى عموم العاملين في هذا الميدان من أفراد أو منظمات.

فبداية من المنظمات الدولية الكبرى المعنية بالعمل مع الشباب كمنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي ومنظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات العالمية، مرورا بالجمعيات والمؤسسات الشبابية المتخصصة في مختلف بقاع العالم، سنجد هذه الممارسة حاضرة بقوة، وهي تعتمد على تحديد عمر معين يمثل بداية مرحلة الشباب وعمر معين آخر يمثل نهاية مرحلة الشباب. على اختلاف بين تلك الجهات في تحديد هذين العمرين.

أين تكمن الإشكالية في معيار العمر كمحدد للشريحة؟ الإجابة الأولية تتجلى بوضوح من خلال مسح سريع على ما تبنته تلك المنظمات من مراحل، فعلى سبيل المثال حددت الأمم المتحدة والبنك الدولي شريحة الشباب بأنها الفئة العمرية بين 15 – 24 ومثلها اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، أما منظمة الصحة العالمية حددتها بأنها بين 15 – 29، بينما الاتحاد الأفريقي فعرفها بأنها الفترة بين 15 - 35، في حين قام معهد فريشايلد لإدماج الشباب (Freechild Institute) بتعريف مرحلة الشباب أنها في الفترة بين 12- 18 سنة، وبالمقابل نجد المعهد الأسترالي للصحة والرعاية (AIHW) يحددها بالفترة بين 12 - 24، وهكذا.

هذا التطواف السريع المقتضب على عينة صغيرة من أبرز الجهات العاملة بشكل أو بآخر في ميدان التنمية الشبابية فيما يتعلق بحدود مرحلة الشباب وموعد بدايتها ونهايتها؛ يعكس بوضوح مقدار التباين في هذه الحدود، وعدم الاتفاق على سن محدد يمثل بداية مجمعا عليها، أو سن أخرى تمثل نهاية أيضا هي محل إجماع.

مع ملاحظة أن هذا التباين على الصعيد التطبيقي المتمثل في إطار الممارسة لدى تلك المنظمات.

أضف إلى ذلك؛ أن هذه الحدود - المتباينة - لمرحلة الشباب بمجملها، تتضمن في داخلها مراحل ضمنية يمكن تقسيم الشباب في ضوئها؛ كما أشار لذلك بوضوح المعهد الأسترالي للصحة والرعاية (AIHW) في تقريره الصادر عام 2022.

إذن فالمشهد من صورة علوية - بانورامية - يحكي لنا عن شريحة عمرية غير واضحة البداية والنهاية بشكل محدد ودقيق، بالإضافة إلى اشتمالها على تقسيمات تفصيلية في داخلها لها خصوصيتها وتفردها عن بقية المراحل الأخرى مما يعني أننا بصدد التعامل مع مراحل متعددة لها تباينها واختلافها رغم أنها تقع ضمن مرحلة عريضة لها مشتركاتها وتقاطعاتها، وليست مرحلة متسقة التضاريس متشابهة المكونات.

والنتيجة بناء على هذا؛ أن التدخلات التنموية للشباب التي تتعاطى مع مرحلة الشباب كمكون واحد ستقع في معضلة عويصة ومنزلق سحيق. ولعل هذا مما يفسر ضحالة الأثر النوعي لمعظم المبادرات الموجهة للشباب، ويساعد على تجلية الموقف بوضوح أكبر.

ولتجنب هذا المنزلق؛ يجدر بنا التحول للتعامل مع مرحلة الشباب كسمات نفسية واجتماعية وفكرية، واحتياجات نوعية، نستطيع من خلالها أن نوصف الواقع بشكل موضوعي ونشخص الاحتياج بنظرة علمية، ونبني تدخلاتنا من ثمّ باقتدار ووعي واحترافية.

المزلق الثاني الحرج في التنمية الشبابية هو مزلق الحلول الشمولية، بمعنى العمل مع شريحة الشباب بتدخلات عامة مجملة، تتناول كافة الجوانب التي تمس اهتمام واحتياج الشباب على مستوى متقارب من المعالجة والتأثير.

حيث تصمم تلك التدخلات كقوالب جامدة تنطلق من معطيات سطحية عمومية عن شريحة الشباب، وترتكز -تلك التدخلات- على استيعاب الشريحة الشبابية ككل دون تمييز فيها أو تفصيل لها، فتأتي مخرجات تلك التدخلات في هيئة تأثيرات عامة سطحية مجتزأة مؤقتة، لا تحدث وقعا ولا تترك رسما..!!

وفي حقيقة الأمر فهذا المنزلق؛ -وإن كان عاما في جل التدخلات التنموية- أسوأ من غيره من المزالق.

ذاك أن هذا المنزلق ليس ناتجا عن تقصير في بذل الجهد أو تفريط في الاهتمام بالضرورة، بل قد يكون نتيجة انهماك واستغراق كبيرين في الاهتمام بشريحة الشباب وانشغال بالغ بقضية العمل في تنميتهم، لكنه أيضا اهتمام وانشغال لم يصحب بتطبيق حصيف أو تنفيذ رشيد يوازيه ويعكسه على أرض الواقع.

إن العمل في مجال تنمية الشباب يقوم أول ما يقوم على أساسين، هما تحديد الشريحة بدقة، ورصد الاحتياج الفعلي الدقيق لها. وهذا يعني أن الحلول في مجال التنمية الشبابية ستأتي مفصلة على شريحة محددة لا تصلح لكل الشرائح بالضرورة، وستأتي أيضا لتتناول احتياجا محددا دقيقا بعينه وليس كل احتياجاتها.

وهذا ما يوضح مدى الحاجة للتخصص في مجالات التنمية الشبابية والتركيز بشكل عميق ومستدام على كل قضية من قضاياها على حدة، والعناية ببناء الحلول المخصصة والمركزة والعميقة التي من شأنها أن تصنع فارقا في حياة الشباب وفي واقعهم.

وهذا الأمر وإن كان عاما لكل الشرائح بمختلف قضاياها؛ إلا أنه أكد لدى شريحة الشباب التي من شأنها التجدد والتغير والتبدل والتحول بشكل دائم ومستمر، بالإضافة لتشعب قضاياها وتعقدها وتداخلها فيما بينها مما يجعلها لا تتقبل الحلول العامة السطحية المؤقتة المجتزأة.

عطفا على أن شرائح الشباب متعددة مختلفة متنوعة، ولكل منها سماته وخصائصه وعالمه الخاص المغاير لغيره من الشرائح، سواء من ناحية نفسية أو اجتماعية أو فكرية أو صحية أو قيمية أو غيرها.

عدا عن ذلك، فلو تناولنا أي جانب من الجوانب التي تمثل احتياجا قائما لدى شريحة الشباب اليوم، وتأملنا بواعثه ومثيراته ومحركاته من جهة، وتداعياته وارتباطاته وتمدداته في غيره من جوانب حياة الشباب من جهة أخرى لأدركنا مدى تعقد الموضوع وصعوبة التعاطي معه إلا وفق عمل مركز موجه دقيق، ينطلق من احتياج مدروس لشريحة محددة من شرائح الشباب.

هذا لا يعني عدم وجود احتياجات مشتركة بين الشباب على اختلاف شرائحهم، مما يعني قابلية تصميم حلول مشتركة، لكن تظل الحاجة قائمة لتحديد الاحتياج محل العناية بشكل دقيق والتركيز على تناوله على حدة، وتوليد حل مناسب له ومكافئ لتأثيره، وعدم تجميع كافة الاحتياجات مع بعضها وتصميم حل موحد لها، يتوقع منه أن يلبيها كلها.

ولتلافي هذا المأزق؛ يجدر القيام برسم خارطة أولويات للاحتياجات لدى الشباب عموما ولكل شريحة على وجه الخصوص، وإعادة ترتيبها وفقا لأولويتها ولإلحاحها وضرورة مبادرتها بالمعالجة. ويضاف لذلك بناء قاعدة معلومات للحلول التنموية الشبابية المناسبة لكل شريحة من شرائح الشباب، والمرشحة لتطبيقها فيوجه كل احتياج لديهم، مع رصد أثر تطبيق تلك الحلول وتطويرها من خلال الممارسة والتجربة بشكل تفاعلي من قبل المعنيين بهذا الأمر.

ثالث المزالق، هو فقد تراكم المعرفة التطبيقية لتجارب التنمية الشبابية، وعدم رصد وتوثيق ذاك الكم الكبير من الخبرات الناتجة من التجارب الكثيفة من قبل المعنيين بالعمل الشبابي، مما يعني ضياع قدر هائل من المعارف والخبرات والأفكار الثمينة التي من شأنها أن تختزل المحاولات المشتتة والجهود المبعثرة وتعيد نظمها في منظومة معرفية تخصصية متكاملة متنوعة.

هذا بالطبع على النطاق المحلي والإقليمي، أما على الصعيد العالمي فالحال مختلف، إذ العمل في مجال التنمية الشبابية بلغ درجة عالية من المأسسة المتينة والنمذجة الاحترافية بحيث أصبح أحد المكونات المؤثرة في التنمية المجتمعية لدى العديد من الدول.

يشكل هذا المنزلق حساسية بالغة نظرا لخصوصية مجتمعاتنا فيما يخص مجال التنمية الشبابية تحديدا، نظرا لتمحورها على منظومتنا الدينية والقيمية والاجتماعية والفكرية التي تتباين في جوانب عدة ومهمة مع ما تطرحه التجربة العالمية في هذا الصدد.

إن الهبات الفردية، والاستجابات العفوية، والمبادرات المؤقتة التي شهدها ويشهدها مجتمعنا في مجال التنمية المجتمعية والشبابية خصوصا -برغم نبلها وطيب جناها- إلا أنها لم تعد هي الإطار الأمثل للعمل في هذا المجال، لاعتبارات كثيرة سبق الإشارة لبعضها، لعل من أهمها الحاجة للتأثير العميق في التدخلات التنموية الشبابية، وارتفاع حدة التغيير ووتيرة التجديد في هذا المجال مما يستلزم كفاءة وقدرة تتماشى مع تلك الحدة والوتيرة.

وللخروج من هذا المنزلق فنحن بحاجة للتوجه لمأسسة ممارسات التنمية الشبابية، واستيعابها في منظمات رشيقة حديثة تستوعب تلك التدخلات وتتحقق أهدافها، بل وإدماج الشباب أنفسهم في هذه التوجه للمشاركة في رسم شكل التحول وفقا لما يتسق مع سجاياهم وطباعهم وتفضيلاتهم المرحلية.

إذن، فهذه مزالق ثلاثة؛ بارزة ومؤثرة ومهيمنة؛ تمثل هدرا وفقدا كبيرا في جهود التنمية الشبابية القائمة والمنطلقة، وتشير هي وغيرها من المزالق الأخرى إلى ضرورة الاهتمام بإعادة صياغة عقلية التنمية الشبابية، ومراجعة منظومة الممارسات والممكنات في هذا الميدان، والعناية بهذه الشريحة بشكل ناضج ومتكامل ومتخصص، والعمل على زيادة تضافر كافة الجهود الحكومية والخاصة والأهلية لتحقيق الهدف الأسمى المرجو من شباب وطننا الغالي.

SulaimanFh@