خضر عطاف المعيدي

فروع الجامعات يا معالي الوزير!

الأربعاء - 05 يوليو 2023

Wed - 05 Jul 2023

«الدرجة العلمية ليست منتهى المعرفة وإنما هي تهيئة للفرد ليكمل رحلة الحياة..». - إيدوارد مالوي.

إن الهدف الأسمى من التعليم الجامعي هو تزويد الفرد بمفاتيح المعرفة والحياة وإكسابه خبرات تعلمه فن التعامل مع أعتى الظروف. والدرجة العلمية ما هي إلا جواز سفر لرحلة علمية لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الفرد ومتى ما فكر الفرد بأنه نال ما يريد من المعرفة فهو على شفى جرف هار سينهار به للجهل. ولعل ما تقدمه الجامعات ممثلة بفروعها يسهم إسهاما كبيرا في الدفع بعجلة التنمية والرقي الذي تهدف الدولة - حفظها الله - لتحقيقهما وفق رؤية واضحة المعالم، وما صعود رائدي الفضاء مؤخرا إلا شاهد عيان على مخرجات تعليم ترقى لمصاف الدول المتقدمة. ولكن من المؤلم حقا أن تقفل بعض الفروع وتتحول إلى دبلومات والتي لربما قد تضخ تخصصات جديدة لسوق العمل ولكن أرى بأن الكليات التقنية والمعاهد هي التي من اختصاصها بالدرجة الأولى التركيز على الدبلومات. أما الكليات والجامعات فهي مضمار المعرفة قبل الدرجة، حيث التدرج في سلم الفكر والمعرفة من دبلوم وبكالوريوس وماجستير ودكتوراه ومتى ما تقهقرت الجامعات وفروعها عن السباق في مثل هذا المضمار فلا تصلح أن تكون معقلا للعلم والفكر أو أن يطلق عليها كليات وجامعات بالدرجة الأولى.

إن وجود الفروع كان بالدرجة الأولى خطة رشيدة من دولة عظيمة نظرت لمصالح المجتمع فسهلت على أبناء المناطق المترامية الالتحاق بفروع الجامعات القريبة منهم كي ينالوا الدرجات العلمية كل في مجاله وليخدم منطقته وغيرها من أرجاء الوطن، ولكم ظهر العديد من المتميزين من فروع الجامعات ما تجاوز الجامعة الأم. والكلية الجامعية بلندن ومعهد ماساتشوستس بالولايات المتحدة بأمريكا أكبر دليلين على أن الفرع قد يفوق الأصل في المخرجات وفي الأداء والجودة.

في الجانب الآخر سيعرقل قفل بعض الكليات مسيرة التعلم للكثير من الطلاب والطالبات الذين ليس لهم حول أو قوة للانتقال للجامعات الأم وسيجعل المنافسة على كراسي الجامعة أشد ضراوة في التخصصات وسيثقل كاهل الجامعات الأم بالأعداد التي قد تفوق الطاقة الاستيعابية للجامعة الأم.

ولعل ما يدور في خلد البعض: ما الجدوى من التخصصات التقليدية وهل تعزز احتياج سوق العمل؟

والجواب عن هذا السؤال ليس بالأمر اليسير ولكن هناك زوايا في غاية الأهمية ينبغي أن نلتفت لها وهي أن الدرجة العلمية ليست لسوق العمل بالمقام الأول وإنما للنهوض بفكر الفرد ليصنع طريقه ويكون يوما صاحب سوق وليس باحثا عمن يوفر له الوظيفة في السوق، والدرجة العلمية تمنح صاحبها الأدوات اللازمة ليكون عضوا فاعلا مجتمعيا، وقفل بعض الفروع أو تقليص بعض التخصصات سيسلب الكثير فرصة التعمق في تخصص يريد أن ينهل منه قبل أن يعول عليه مستقبلا.

من الأمور الضرورية النظر في البرامج وإعادة بلورتها لتتسق مع سوق العمل ورغبة الطالب والباحث. فتخصص كاللغة العربية يراه البعض أنه قد ركد ولا يوافق سوق العمل ولكن العلة ليست في تخصص اللغة العربية وإنما في تأطيره وفق المجالات الدقيقة والحيوية والتطبيقية منه، فعلى سبيل المثال أين تخصص التدقيق اللغوي كمجال في اللغة العربية، وأين الدراسات اللغوية للمأثور الديني، وأين تخصص لغوي يبحث في الآثار والتأريخ اللغوي، وتخصص لغوي يبحث في التدوين وفي المعاجم الحديثة وفي توثيق اللغة المعاصرة وربطها بالعريق، وتخصص لغوي يبحث في لغة القانون، وتخصص يبحث في تأصيل النص المترجم، وتخصص لغوي يبحث في لغة الطب وإعادة سبكها، وتخصص لغوي يبحث اللغة الصناعية والتجارية والبترول، وتخصص يخاطب القارات وليس وفق خارطة الوطن، وتخصص يجمع شتات العربية على لسان واحد وما إلى ذلك، كما نحن بحاجة كذلك لتخصص لغوي تطبيقي يبحث في تدريس العربية لأغراض محددة كاللغة الطبية والهندسية والعلمية، وأيضا بحاجة لتخصص عربي تطبيقي يبحث في تدريسها للناطقين بغيرها وفق أسلوب معملي يهدف لتكييف النظرية الغربية وفق قوالب عربية تجعل من العربية رائدة ليس على المستوى الأكاديمي بل عبر المنصات الاجتماعية وعبر خارطة الفضاء المعرفي.

ولو نظرنا لتخصص كالتربية البدنية الذي لو أضيف له تخصص الطب الرياضي والإدارة الرياضية وإدارة الأندية وتخصص يجمع بين الرياضة والطب البديل وتخصص في القانون الرياضي المحلي والدولي وتخصص تطوير جودة الرياضة وتخصص يبحث في الرياضة كجزء من التجارة والأعمال والرياضة في الجانب السياحي والرياضة كمنتج ثقافي والرياضة كصلة وصل غير سياسي بين الأمم والشعوب وما إلى ذلك من التخصصات الدقيقة التي ستجعل من هذا التخصص بوابة ذهبية لسوق العمل.

ومما يجدر الإشارة إليه هنا أنه حتى تخصص مثل اللغة الإنجليزية لا بد أن يحرر من شرنقته التي جعلته في ثلاثة فروع أساسية: لغويات وأدب وترجمة بينما المجالات أكثر من أن تختزل في هذه الفروع التي تحنطت لسنين وفق مناهج عتيقة. فأين تخصص اللغة عن الجريمة وأينه عن الطب وأين اللغة العلاجية وأين اللغة السياسية وأين اللغة عن الحوار الدولي وحوار الأديان وأين اللغة عن العلاقات الدولية وأين اللغة من السياحة والتجارة وأين اللغة من التسويق وإدارة المشاريع وأين تخصص اللغة الإنجليزية من جارته العربية اتفاقا واختلافا؛ فهذه وغيرها من المجالات التي لابد أن توظف توظيفا دقيقا منهجا وتدريسا لإخراج جيل متمكن في مجاله.

ولا بد من التعريج أيضا على قضية تغيير مسارات التخصص بالجامعات وأن تحدد مبكرا إن كانت لضخ معلمين ومعلمات لسوق العمل أو لضخ باحثين وباحثات أو أكاديميين وأكاديميات أم غير ذلك وذلك بدراسة جدوى عالية المستوى تنظر لسوق العمل واحتياجاته وفق خطط زمنية تتوافق مع المدة الزمنية للدراسة الجامعية ووفقا للحاجة للتخصص والعدد لكل جهة وليتم القبول نسبة وتناسبا. ولابد أيضا من إخضاع أساتذة الجامعات لدورات قصيرة تطويرية في المستجدات التخصصية ليتسنى له التعرف على كل مجال فأستاذ الجامعة -غالبا- لديه القدرة على التكيف مع أي مستجد وبالإمكان تطويع خبراته لتوليد طاقة متجددة تسهم في سد ثغرة الحاجة في أي تخصص استجد على الساحة.

أخيرا، التعليم هو المادة التي لا تفنى من العدم وهي سبب تقدم البشر عبر العصور وكل أمة تقهقرت فإنما تقهقرت بسبب سوء التعليم وسوء التخطيط له والاستهانة به فسلبت منها حضارتها في لحظات، التعليم هو الدثار والشعار الذي يستر الإنسان وبدونه يصبح عاريا وكما قال الشرقي في ديوانه:

هذب يراعك وانصر دولة القلم

واحمل على الدهر في جند من الكلم

السيف يثلم إن طال القراع به

وفي اليراعة سيف غير منثلم

لم يقسم الله بالذكر المبين به

وإنما شرف الأقلام بالقسم