خضر عطاف المعيدي

العين والحسد: الشماعة المعاصرة!

الثلاثاء - 13 يونيو 2023

Tue - 13 Jun 2023

«العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين».

من أساليب التواصل اللغوي في واقعنا المجتمعي المعاصر أن نجد كثيرا من الأفراد قد أقحموا كلمة (ما شاء الله) في كل شيء حتى حين يسألك عن اسمك فيقول لك «ايش اسمك ما شاء الله؟» لا أعلم لو لم يقل ما شاء الله سينقلب الاسم بسبب العين من «محسن» إلى «مفسد» الله أعلم!

إن مفهوم العين والحسد ليس قصرا على مجتمع بعينه بل له ملامح متعددة في الثقافات الغربية والأوروبية والشرقية منذ العصور القديمة؛ لكنه تلاشى وذابت معتقداته بعد القرن الثاني عشر، خصوصا بعد النهضة العلمية والفكرية في الغرب؛ لذلك لا يستوعب العقل الغربي المعاصر مفهوم تقييد تحركات الإنسان وفق الطقوس والأوراد اليومية، ووفق إقحام لفظ ديني محدد عندما يتحادثون أو في حين إبداء إعجابهم بشيء. بالمقابل لا يزال المجتمع العربي والإسلامي قابعا في زوايا الكون الوسواسي، ولربما أضفت بعض الروايات الحديثية -إذا ارتقت لدرجة الصحة- نوعا من التأصيل لمفهوم العين والحسد.

لقد عرف مفهوم العين والحسد والسحر والجان من عصر الجاهلية فخصصوا لذلك التمائم والأحراز وما إلى ذلك، ولعل الكل يعلم قصة الشاعر الهذلي الذي توفي له تسعة من الأبناء فحرز الأخير بتميمة ولكن الموت لم يمهله فأنشد قصيدة بديعة قال في آخرها:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وهذا يؤكد مدى تجذر أسطورة العين والحسد وما إلى ذلك، بل حتى إن كتب أهل البلاغة لتزخر بفيض من الكنايات والتورية التي كان يستعملها العربي ليعرض بالجان وبالسحر دون الحديث المباشر وذلك نوع من التطير الذي نهى الإسلام عنه.

من المؤلم فعلا أن يرسخ في أذهان كثير من أفراد المجتمع حتى الطبقة المتعلمة منهم والمتدينة مفهوم العين فأصبحت العين والحسد هي المتنفس الذي يستنشق منه كل فاشل وغير منتج الأوكسيجين. يعلق الرسوب والإهمال بأنه بسبب العين والحسد وليس عدم الاجتهاد، ويعلق فقدان الشهية في الطعام بأنه العين والحسد وليس وفق وجود أحماض في المعدة، وتأخر الزواج له ارتباط بالعين والحسد، وليس بواقع الجمال لدى الفتاة والنصيب، بل حتى التي لا تصلح للزواج أصلا تعلق ذلك بالحسد.

ترسبات فكرية قد وجدت طريقها إلى عقول أغلب المجتمع فتنابذ الناس بذلك فأصبحوا لا يفشون أسرارا بسيطة مثل خطبة ابنتهم أو تقدير ابنهم أو حتى المكان الذي سيذهبون إليه وما إلى ذلك مع العلم بأن الحكمة تقول «كل من احترز من شيء فهو صاحبه» فاللص يعرف ألاعيب اللصوص وعاصر الخمرة يعرف مزاج الشاربين، وكذلك من يتحرز من العين فهو حاسد قبل أن يكون محترزا.

لو ألقينا نظرة خاطفة على المجتمعات الغربية مثلا نجد بأن الفتاة تخرج شبه عارية بل وعارية كليا في الشواطئ، وقد أبدت كل مفاتنها مع ذلك لا نجدها تصرع بالعين والحسد، نجد الرياضي وقد عرض كل مهاراته أمام الجمهور دون أن يقتطع وقتا لتلاوة ورد التحصين، تجد الباحث منهم أيضا لا يتوقف عن البحث والإنتاج وإلى غير ذلك وإذا ما ألم بالشخص فيهم أي عارض اتجه للأطباء العضويين أو النفسيين للبحث عن أساس المشكلة. وعلى العكس من ذلك نجد أحدنا قد أصيب بنوع من الاكتئاب بسبب كثرة الديون فيتجهون به لشيخ «يلعب بآيات الله» ليستنزف بها ما في الجيوب ليقرأ عليه وينفض عنه غبار الحسد والعين ويكون بذلك قد نشط من عقال.. وهذا بدوره منح أرضا خصبة لظهور الرقاة في مجتمعنا حتى أصبحوا من التجار (يتاجر ببصقته على وجه الزبون) بسبب مجتمع لا يفقه من الدين إلا القشور.

ذكر المفكرون بأن من سمات المجتمع المتخلف «أن يكثر فيه الاحتضان للأساطير»، وبقدر ما تجد من نبذ لها تعلم بأنك في مجتمع راق.

لقد فرق مفهوم الحسد والعين ما بين الناس وأثار بينهم الشكوك والوسواس وجعلهم يتوجسون من بعضهم البعض «ولقد صدق عليهم إبليس ظنه».