عبدالله مشرف المالكي

"لا" المجني عليها

الاثنين - 15 مايو 2023

Mon - 15 May 2023

اعتاد الآباء على تربية أطفالهم على تقليص عدد المرات التي يجيبون فيها بـ"لا"، إذ لطالما مثلت الكلمة صورة مرفوضة من التمنع والعناد وعصيان رغبة الكبار. ويبدو أن لهذه الـ"لا" ثأر بائت أيضا مع المعلمين في المدارس، ثم المديرين في المصالح والأشغال، فما قيلت في موقف إلا وأشعلت نيران الغضب، وأطلقت صيحات الوعد والوعيد.

ورغم أن "لا" مجرد كلمة من حرفين اثنين لا ثالث لهما، فإنها تحمل داخلها قوة جبارة، وشخصية متفردة بين كلمات اللغة واصطلاحاتها، فهي مع قلة عدد حروفها تعكس إرادة صلبة، وعزيمة فولاذية، وفكرا مستقلا.

ومع ذلك، فإن النظرة السلبية لم تفارق هذه الكلمة المسكينة منذ القدم، حتى إن الفرزدق حينما رغب في مدح علي بن الحسين بن علي زين العابدين قال فيه:

ما قال لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ

لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاؤهُ نَعَمُ

لقد ارتبطت "لا" بشكل أو بآخر في الموروث الجمعي الإنساني بتفضيل الذات على الغير، والسعي لقضاء الحوائج الشخصية قبل الحوائج العامة، ومجرد سماعها لدى البعض يولد مشاعر سلبية، لأنهم يظنون أنها إشارة إلى النبذ أو الأنانية أو التخلي، بل إن كل مرة تقال فيها كلمة "لا" ولو بعفوية، تمحو في المقابل مئات المرات التي قال فيها الإنسان "نعم" مؤثرا الآخرين على وقته، وجهده، وماله، وهذا من الإجحاف والتعسف في المعاملة.

ومن الغريب، أن التأثير السلبي للفظ الرفض البسيط هذا، لا ينعكس على الآخرين وحسب، وإنما نشعر نحن قبلهم بالسوء لأننا تقاعسنا عن خدمتهم، وفضلنا احتياجاتنا على احتياجاتهم، وكأننا نحصل في كل مرة نقول فيها "نعم" على امتياز يضاف إلى شهادة صلاحيتنا، أو نجمة فوق جبيننا تؤكد جدارتنا بالصداقة أو الزمالة أو الجيرة أو الأبوة أو البنوة، أو غير ذلك من العلاقات الإنسانية.

وهذا مفهوم – دون شك – إذ إن الموافقة على تقديم يد العون دون تباطؤ أو تردد يشكل صورة من صور الرضا عن الذات، وإضفاء صفات إيجابية على النفس، مثل الكرم والعطاء والقدرات الخارقة والإيجابية والإيثار.. إلخ. فإذا أضفنا قبول الآخرين وتقديرهم اللفظي للاستجابة إلى متطلباتهم، سنفهم كيف تفوز "نعم" على "لا"، ولو على حساب أولوياتنا الخاصة!.

في رأيي يحتاج الإنسان منا إلى أن يعرف متى تصبح "لا" ضرورة لا يجوز التخلي عنها تحت أي ضغوط، فإن الاستمرار في قول "نعم" بشكل يجعل المرء يتجاهل حاجاته النفسية والبدنية، سيقود في النهاية إلى انهيار كامل للقوى، أو ما نفسره أحيانا بالإرهاق العميق عاطفيا وجسديا وعقليا وروحيا.

عندما يستمر الإنسان في الاستجابة والتفاعل مع طلبات المحيطين التي لا تنقطع، يفوت على نفسه محطات الراحة والاستجمام، وإعادة الشحن اللازمة لمواصلة الحياة بكفاءة وفاعلية.

لا بأس بالعطاء، ولكن لا تكن مثل بئر ينهل منه الناس، ويتكالبون فوقه مانعين مياه المطر من تجديد مخزونه. التوازن بين "نعم" و"لا" سيجعلك شخصا صالحا أيضا، ولكن سيعلم الآخرون أن لك حدودا لا يجب تجاوزها.