هتون أجواد الفاسي

ذابوا كالملح في الماء.. سنة الطبعة

الخميس - 20 أبريل 2023

Thu - 20 Apr 2023

للوهلة الأولى تتبادر إلي خماسية «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف، لكن «رجال من ملح» رواية ليست بعيدة في دلالة الاسم والوصف والتشبيه وفي صفتها كرواية تاريخية مرددة لصدى رواية «ثمن الملح» لخالد البسام.

الرواية التاريخية من أصناف الروايات الخاصة التي تتطلب جهدا كبيرا في الدمج ما بين الحبكة الدرامية والأحداث التاريخية بشكل غير مخل بأي طرف، فالحبكة الدرامية لها شروطها الأدبية والإبداعية، والحدث التاريخي يفرض نفسه بتوثيقه وتحقيقه أيضا وقد يستطرد الكاتب فيتحول السرد إلى خطاب تاريخي مباشر.

والرواية التاريخية في الخليج والجزيرة العربية حديثة العهد ربما يمكن أن نقول إنها بدأت بعبدالرحمن منيف في 1984م لأول جزء، وانتظر الخليج عقودا طويلة في محاولات محدودة حتى وصلت رواية القرصان لعبدالعزيز آل محمود القطري عن شخصية أرحمة بن جابر التاريخية لتأريخ الخليج والاستعمار البريطاني في بداية القرن التاسع عشر عام 2011م، ثم تلاه برواية الشراع المقدس في 2014م التي عادت بالتاريخ إلى القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين وتتوالى الروايات التي بدأت تأخذ أبعادا مختلفة، نقاطا تاريخية مسكوتا عنها في نواح نائية في التاريخ والجغرافيا كتاريخ الرقيق في الخليج لدى خالد البسام في «ثمن الملح» عام 2016م، إلى رواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق لأميمة الخميس في 2017م متخذة شخصية خيالية من بني حنيفة في القرن الثالث الهجري للدولة الأخيضرية في اليمامة لتدور العالم الإسلامي آنذاك توثق لتلك الفترة التاريخية بين القرنين الثالث والرابع الهجريين.

وبين ذلك كانت تجربة علي إسماعيل في روايات تاريخية متعددة، وفي 2020م كانت «رجال من ملح، التي وإن كانت تحمل النزعة التوثيقية التاريخية والاجتماعية، إلا أنها خدمت الموضوع بشكل كبير أفضل بكثير من كتاب تاريخي جامد في الغوص ومصطلحاته، ليحملنا إلى كل تفاصيل الحياة اليومية لعالم البحر على الخليج في بداية القرن العشرين، مع يوميات أربعة أشهر الغوص وما يسبقها وما يليها وكيف تبنى سفنها وما يتوارد من لغة ومفردات غاب كثير منها اليوم أو أخذت شكلا جديدا مثل السنيار والسردال والنوخذة والقلاف والغيص والسيب والتبة والدشة والقفال أو أسماء السفن التي غاب أكثرها كالجالبوت والبوم والسنبوك والبانوش والبوري.

أما أسماء اللؤلؤ ومحاره فقد تعددت أيضا لكنها ما زالت في مجملها مألوفة وكثير منها انتقل إلى أسماء أعلام البنات. لكن أكثر ما تردد ذكره كانت مغاصات اللؤلؤ في الخليج والتي تبلغ المئات إن لم تكن الآلاف وهنا تأتي خبرة النوخذة (القبطان) في الوصول بسفينته وبحارته إليها والتنقل فيما بينها وفق خبرته في تقدير المغاصات الخطرة والأقل خطورة أو الغنية بمحار اللؤلؤ ذي الأحجام الكبيرة وأعماق كل مغاص وصفاء مائه والزمن المتاح لكل عمق مع وزن حالة الرياح والموج.

القصة تروي معاناة أهل الخليج بكل مناطقهم من الكويت شمالا إلى عمان جنوبا مرورا بدبي وقطر والبحرين وتاروت والقطيف، في حياتهم اليومية وآمالهم وأحلامهم في صغرهم وكبرهم، والديون التي يرزحون تحتها وتقسيم شهور العام بين الغوص والصيد علهم بها يسدون احتياجاتهم اليومية من غذاء ولباس والتزامات وديون تترتب على الغواصين لصالح نواخذة السفن التي يبحرون معها.

كان الغوص على اللؤلؤ هو الهدف الذي تسعى إليه كل أسرة برجالها منذ هم صبية. يتعلمون مهارات الغوص والقدرة على توسيع قدرة الرئتين على تحمل حبس الهواء لأطول فترة ممكنة تمكنهم من الوصول إلى القاع وجمع المحار والصعود خلال دقيقة أو دقيقة ونصف على أقصى تقدير.

كانت القصة توثيقا دقيقا للحياة اليومية بشكل قريب من الرواية التي تتخللها الكثير من القصص التراثية وقصائد وأراجيز الصيد التي يطلقها النهّام (منشّد السفينة) من عيون قصائد شعراء الخليج وعلى رأسهم عيسى محسن التاروتي، ليرددها وراءه البحارة وهم يجدفون ويعملون بهمة تركت أثرها اليوم في التراث الموسيقي للخليج.

كانت القصة فضلا عن ذلك تدور حول حدث تاريخي مؤلم وقع في آخر سبتمبر من عام 1925م، أي من حوالي مائة عام والتي أطلق عليها اسم سنة الطبعة أي الغرق، عندما ضرب إعصار كاسح الخليج في موقع مغاصات (هير) شتية إلى الشمال الشرقي من البحرين 25 ميلا من شواطئ سماهيج والدير وعلى بعد يومين فقط من القفال أو رحلة العودة إلى الوطن بعد الانتهاء من موسم الغوص، وبعد أن تجمعت عندها معظم سفن الغوص على اللؤلؤ للتوديع عند منطقة مغاصات غنية وغير بعيدة عن الأوطان وغير عميقة أيضا.

كانت دوما خيار النواخذة لدى القفال وهو ما حدث ذلك العام، وإذ بالإعصار يضربهم ليلا وهم نيام حيث ارتفعت الأمواج وأصبحت كالجبال تبتلع السفن بمن عليها وانفتحت السماء بأمطار من حجارة مع عاصفة رملية ورياح أطلقت السفن التي استطاعت الانفلات من مرساتها في سرعات جنونية لتنطلق في اتجاه قاتل نحو أي سفن أخرى في طريقها لم تستطع الفكاك من مرساتها فتراكبت السفن فوق بعضها البعض، وانطلقت أسماك القرش (الجرجور) وغيرها من الأسماك الكبيرة القاتلة على الآلاف من البحارة الذين ابتلعتهم المياه وهم يصارعون الأمواج من جانب والرياح من جانب آخر والسفن التي تنقلب عليهم من جانب ثالث.

في خلال نصف ساعة فقط قضى ما بين خمسة آلاف وثمانية آلاف بحار في تلك السنة من 25000، و80% من سفن اللؤلؤ التي كانت قد خرجت بالمئات، معلنة نهاية عصر اللؤلؤ والانهيار الاقتصادي الذي عانت منه مدن الخليج لفترة طويلة لم تقم لها بعدها قائمة وقد سلّمت هذه التجارة إلى اليابان ولؤلؤها المزروع في مصائد آمنة بعيدة عن الهوائل التي كان يخوض فيها سكان الخليج منذ بدء التاريخ. كما ابتلع البحر الألوف من خيرة الشباب القادرين على العمل، فقد دمر الإعصار الذي أطلق عليه في البر اسم «العافور» ما مر في طريقه من بشر وحجر وماشية، ومقتلعا الأشجار والنخيل والأكواخ وارتفعت المياه لتغمر البيوت.

بقي ذكر سنة الطبعة مطبوعا في ذاكرة أهل الخليج لسنوات طوال تلت، مبعدة بينهم وبين البحر لا يلوون.