محمد مندورة

نوح - عليه السلام - الرسول «العالِم»

الاحد - 19 مارس 2023

Sun - 19 Mar 2023

كل رسول أرسل إلى البشر لديه معجزة تؤيده وتثبت أنه رسول مرسل، فما هي معجزة سيدنا نوح - عليه السلام - التي كانت تؤيده وتثبت رسالته؟

قبل الخوض في الإجابة على السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن معجزة الرسول/ النبي لا بد من أن تتزامن مع بداية البعثة؛ لأن الغرض منها إثبات الرسالة/النبوة.

ونجد ذلك واضحا في سيرة الأنبياء والرسل. ففي سيرة موسى عليه السلام نقرأ في سورة (طه) قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18) قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23) اذهب إلى فرعون إنه طغى (24)‏}.

ويتضح من هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى أعطي موسى عددا من المعجزات التي تثبت أنه رسول مرسل، ثم قال له في الآية (24): «اذهب إلى فرعون إنه طغى.»

كذلك فإنه من المعلوم أن القرآن الكريم هو معجزة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-. وكان بدء نزول جبريل بالوحي هو المتضمن أول خمس آيات من القرآن الكريم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)}.

وهذه الآيات هي الإعلان عن بدء بعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

ولنعد الآن إلى السؤال المطروح: ما هي معجزة سيدنا نوح عليه السلام؟

بالبحث في أقوال المفسرين وأهل العلم، نجد أنهم أشاروا إلى احتمالين لهذه المعجزة.

الاحتمال الأول أن نوح عليه السلام عاش 950 عاما، والاحتمال الثاني أنه بنى سفينة على اليابسة، وأن هذه السفينة أنجته هو مع من آمن معه عند حدوث الفيضان.

ولكن بالتأمل في هذين الاحتمالين نجد أن كليهما يتعلقان بأحداث ستقع بعد مئات السنين من بدء بعثة نوح، وبالتالي فإنهما لا يمكن أن يكونا المعجزة التي تثبت نبوة نوح عليه السلام.

فبالنسبة للاحتمال الأول لنتخيل هذا المشهد معا: يجمع نوح قومه بعد بدء بعثته، ثم يقول لهم: يا قوم.. أنا رسول الله إليكم.. وقد جئتكم بمعجزة تثبت رسالتي، وهي أني سأعيش لمدة 950 عاما.

وبالنسبة للاحتمال الثاني، لنتخيل المشهد التالي معا: يجمع نوح قومه بعد بدء بعثته، ثم يقول لهم: يا قوم.. أنا رسول الله إليكم.. وقد جئتكم بمعجزة تثبت رسالتي، وهي أن الله سيرسل عليكم طوفانا بعد مئات السنين من الآن، وهذا الطوفان سيغرق الكافرين ممن سيبقى منكم على قيد الحياة في ذلك الوقت.

ولكنني سأبني سفينة تنجيني أنا ومن معي من المؤمنين.

ومن الواضح أن الاحتمالين المذكورين -رغم كونهما معجزتين من معجزات نوح عليه السلام- لا يصلحان أن يكونا المعجزة التي تؤيد رسالته عند بدء بعثته.

إذن، ما هي معجزة سيدنا نوح عليه السلام التي تؤيده وتثبت رسالته؟

بالرجوع إلى القرآن الكريم، نقرأ في سورة (نوح) أن سيدنا نوحا كان يحاور قومه ويقول لهم: {ما لكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20).}

وبالتدبر في هذه الآيات نجد أن نوحا يحاول إثبات أن الله هو الخالق من خلال استعراضه لحقائق علمية مهمة من مجالات علوم مختلفة. ففي الآية (14) يشير نوح في قوله «وقد خلقكم أطوارا» إلى أن الله تعالى هو الخالق، ويستشهد على ذلك بوصف مراحل تكون الجنين في الرحم.

وهذا دليل على أن نوح كان يمتلك علما ومعرفة بعلوم الأحياء تسبق معارف زمنه بآلاف السنين.

ثم يشير نوح في الآية التالية مرة أخرى إلى قدرة الله الخالق، وأنه خلق السماوات السبع. ونحن نعلم الآن أن الكون الذي نعيش فيه هو السماء الدنيا، وهي واحدة من السماوات السبع.

وكنه وماهية السماوات السبع هو أمر غامض علينا حتى في زمننا هذا.

فمنهم من يقول إنها، طبقات الجو، ومنهم من يقول إنها الكواكب السبعة التي تدور حول الشمس، ومنهم من يقول إنها أكوان متوازية مع الكون التي نعيش فيه، وغير ذلك من النظريات.

لذا فإن كون نوح عليه السلام على علم بماهية السماوات السبع يدل على اطلاعه ومعرفته بعلم الأكوان (cosmology)، كما يدل على أن الله تعالى قد أعطى نوحا مع المعارف والعلوم ما لم نصل إليه في زمننا هذا.

ويلاحظ أن مراحل تكون الجنين في الرحم أو خلق السماوات السبع هي حقائق لا يمكن معاينتها بالعين المجردة.

لذا نجد أن نوحا في الآية (16) ينتقل إلى الإشارة إلى خلق أشياء محسوسة يمكن لأي شخص رؤيتها بالعين المجردة، وهو خلق القمر والشمس. ولكن مرة أخرى يذكر نوح حقائق علمية نعرفها الآن، ولكنها كانت غير معروفة في ذلك الزمان، وهي أن الشمس مصدر للطاقة والضوء بسبب التفاعلات النووية في باطنها، وهي تشبه السراج الذي ينشر الضوء عند احتراق زيت الوقود فيه.

أما القمر فإنه ليس مصدرا ذاتيا للطاقة أو الضوء، وإنما يعكس النور الذي يصل إليه. فهذه الآية تدل على أن نوحا كان على علم واطلاع بعلوم الفيزياء والفيزياء الفلكية (astrophysics).

ثم يصف نوح في الآية (17) نمو جسم الإنسان وأنه يشبه نمو النبات، وأن الأرض هي مصدر المادة التي يتكون منها النبات وكذلك جسم الإنسان.

وهذه الحقائق نعلمها الآن وهي أن ذرات الأكسجين والهيدروجين والكاربون تمثل ما يقرب من 93.5% من وزن جسم الإنسان، وأن باقي الوزن يتكون من ذرات عناصر أخرى مثل: النيتروجين والكالسيوم والفوسفور والبوتاسيوم وغيرها، وهي جميعا مصدرها الأرض.

فهذه الآية تدل على أن نوحا كان على علم واطلاع بعلم النبات (botany) وعلوم الكيمياء والكيمياء العضوية.

ثم يصف نوح في الآية (18) الفرق بين خلق الإنسان لأول مرة وبين إعادة خلقه عند البعث والنشور.

فبعد مراحل تطوير الجنين في الرحم الذي جرى وصفه في الآية (14) فإن الإنسان يولد طفلا رضيعا، ثم ينمو ويكبر مثل ما تنمو النباتات.

أما عند البعث والنشور فإن الله تعالى يعيد تكون جسم الإنسان بعد أن كان ترابا، ويبعث المرء في هيئته المكتملة.

وتعطي الآيتان (17) و(18) مثالا لقانون حفظ المادة: فعندما يموت الإنسان ويدفن ويتحلل جسده، فإن ذرات العناصر التي يتكون منها جسد الإنسان تعود إلى الأرض التي خلق منها في الأساس.

وعند البعث والنشور فإن جسد الإنسان يعاد تشكيله من هذه العناصر في الأرض.

ثم يعود نوح في الآيتين (19) و(20) إلى ذكر حقائق علمية أخرى، وهو أن خصائص الأرض مهيأة تماما لسكنى الإنسان عليها، وأن سطحها يمكن الإنسان من الحياة والتحرك والسير عليها بيسر وسهولة.

ونشوء الحياة واستمرارها على أي كوكب لا يعتمد على طبوغرافية السطح فقط، وإنما يعتمد أيضا على خصائص البيئة بأكملها، مثل: الحرارة والضغط والجاذبية وتركيب الهواء، وغير ذلك.

فسطح عطارد وهو الكوكب الأقرب إلى الشمس يتكون من صخور وغبار يجعل من الصعوبة التحرك عليه، هذا بالإضافة إلى أن جو عطارد تكون الحرارة فيه عالية جدا في النهار، والبرودة شديدة جدا في الليل.

أما كوكب الزهرة فإن جوها يتكون من غاز ثاني أكسيد الكربون السام، وتبلغ درجة حرارة السطح أكثر من 500 درجة مئوية، كما أن الضغط على سطح الزهرة أعلى من الضغط على سطح الأرض بأكثر من 75 ضعفا.

كل ذلك يجعل من المستحيل الحياة والتحرك على سطح الزهرة.

وهكذا بقية الكواكب فإنه لا يمكن الحياة عليها إما لأن سطحها يكون غازيا أو مكونا من الثلوج، وإما بسبب درجات الحرارة العالية جدا في النهار والمنخفضة جدا في الليل، أو بسبب مستويات الضغط التي لا يتحملها الإنسان، أو تكوين الغلاف الجوي، أو اختلاف الجاذبية، أو أسباب أخرى لا تدعم نشوء الحياة واستمرارها على هذه الكواكب.

وتندرج هذه المعارف تحت ما يعرف بعلم الكواكب (planetology).

إن هذه الآيات تظهر القدر العظيم من العلوم والمعارف التي كان نوح عليه السلام يحيط بها بإذن الله تعالى، وهي تدل على أن معجزة نوح عليه السلام هي: أن الله تعالى قد أعطاه العلم الغزير في شتى أبواب المعارف والعلوم؛ لذا يمكن أن نصف نوحا عليه السلام بأنه «الرسول العالم».

ومن الممكن أن يكون نوح قد سأل الله تعالى أن يعطيه هذه المعارف والعلوم فأعطاه الله إياها، وذلك مثلما سأل سليمان عليه السلام الله تعالى أن يعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده في قوله: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}.

ومن المؤكد أن نوحا عليه السلام -خلال مئات السنين التي عاشها بين قومه- قد اتبع مختلف أساليب الدعوة في محاولة إقناع قومه بصحة رسالته وصدق دعوته، ولكن جميع تلك المحاولات لم تجد نفعا.

وفي الآيات 5-7 التي تسبق الآيات أعلاه في سورة (نوح)، نقرأ ما يلي: { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7)}.

وبعد فشل تلك المحاولات، لجأ نوح عليه السلام إلى منهج الحوار العلمي في الدعوة، ولكن هذا المنهج لم ينجح أيضا، ولعل سبب ذلك أن المخاطبين لم تكن لديهم القدرة على استيعاب وفهم هذه العلوم والمعارف، وربما كانوا يظنون أن نوحا كان يكذب عليهم أو أنه مجنون.

لذلك فقد حقت عليهم كلمة العذاب بالغرق إلا من آمن وصدق بنوح فقد أنجاهم الله تعالى في السفينة.

هذا، والله ورسوله أعلم، ونسأل الله تعالى أن يزدنا علما، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا.

وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.