زيد الفضيل

ملتقى نجران الحضاري وكتابة التاريخ

السبت - 04 فبراير 2023

Sat - 04 Feb 2023

تعقد جمعية تاريخ وآثار دول مجلس التعاون الخليجي مؤتمرا علميا خلال اليومين القادمين في رحاب مدينة نجران العريقة بتاريخها وحضارتها، وذلك بالتعاون مع جمعية الآثار والتاريخ بمنطقة نجران (جاتن)، ويأتي هذا الملتقى متمما لما سبقه من ملتقيات جانبية تم عقدها في بعض مدن المملكة العربية السعودية، وكان آخرها قبل فترة وجيزة بمدينة الطائف.

والواقع، تمثل هذه الملتقيات فرصة سانحة لزيارة مواقع مهمة والوقوف على جوانب من تاريخها وشواهدها الحضارية، ولا سيما أنها أصيلة في عمقها الوجودي بما يعنيه ذلك من دلالة مادية ومعنوية. كما تسهم في تكثيف أوجه الاتصال المباشر بين المؤرخين والآثاريين، مما يتيح لهم تبادل النقاش في كثير من الموضوعات العلمية على هامش الندوات الرسمية، علاوة على إسهامها في إثراء وعيهم حال الاستماع إلى عديد من الأوراق البحثية المقدمة، التي يفترض أن تكون جديدة في مضمونها، دقيقة في تحليلها، عميقة في مضامينها الدلالية، وهو ما أرجوه وأنادي به دائما، لا سيما في مثل هذه الملتقيات العلمية المتخصصة.

في هذا السياق، أشير إلى كتاب مهم في مضمونه وأسلوب منهجه العلمي وهو من تأليف المؤرخ يورك ماتياس ديترمان وترجمة المؤرخ الدكتور عبدالله العسكر - يرحمه الله - وجاء بعنوان «كتابة التاريخ في المملكة العربية السعودية: العولمة والدولة في الشرق الأوسط»؛ ويهمني في هذه العجالة أن أشيد بمنهج أستاذنا العسكر العلمي، وبمهنيته ومصداقيته المنهجية، حين أشار في مقدمته إلى عدم إغراق الترجمة بتعليقاته الجانبية التي تفند عديدا من تحليلات المؤلف مما لا يتوافق معها؛ لأنها -والقول له- من باب الرأي، وليست من المعلوم من التاريخ بالضرورة، ولرغبته في أن يعطي القارئ فسحة من الفكر ليتمعن في بعض تحليلات المؤلف دون تدخل منه كمترجم للكتاب.

ما أجمل هذا العقل الواعي الذي أفتخر بأني قد تتلمذت عليه في يوم من الأيام، بل وكنت صديقا له بعد ذلك، وكم لامسني هذا المنطق المنهجي كباحث تواق لاستكشاف فرائد الأفكار والموضوعات، والسعي إلى معالجتها بمنهج علمي سليم، وأجزم بأن ذلك هو ما نحتاج إليه حال تدبرنا في النازلة التاريخية، واستنطاق مكنونها وجوهر كنهها التاريخي والحضاري؛ ولذلك أراني راجيا من مختلف اللجان العلمية التي يقع على كاهلها تنظيم أي لقاء معرفي، عدم إغراق الملتقيات المتخصصة بكثير من الأبحاث المكررة والتي لا تحمل في طياتها أي جديد، ولا تتقصد سبر أغوار المعلومة وإعمال التحليل المنهجي وفق مختلف المدارس التاريخية ووجهات النظر الفلسفية كـ»التعددية التاريخية» التي استند إليها ماتياس في دراسته.

لقد مثل التاريخ مرجعا لسائر العلوم، ولذلك فالمؤرخ الحصيف هو من ينسج خيوطه المتينة بين تلك العلوم جملة والإنسانية منها تحديدا، ليصنع مدونته بمتانة ومنهج شمولي، حتى إذا احتاج السياسي إليها وجدها حاضرة بين يديه، وقد أغنته بشموليتها واستيعابها لجميع ما يحتاجه من جوانب اجتماعية ودينية وفكرية واقتصادية وغيرها.

إنه التاريخ الموضوعي الذي يستشرف فيه الباحث الحاضر والمستقبل من خلال رصده الدقيق، وشواهده الصحيحة، ومصفوفات تحليله ونتائجه، ولا يكتفي بأن يكون رجع صدى لماض لم يسبر أغواره بعمق تحليلي.

وهو التاريخ الحضاري الذي سيؤكد اعتزازنا بأنفسنا، ويوثق ارتباطنا بذواتنا، لكننا للأسف قد أهملناه حال قراءتنا وتدبرنا لحيثياته، ولذلك صار تاريخنا مادة ثقيلة لا تمت إلينا بصلة.

إنه التاريخ الذي يشكل عنوانا رئيسا في خارطة المعرفة لدى الدول المتقدمة إجمالا، في الوقت الذي ألفنا أن ننظر إليه بازدراء، حتى بات هامشا في ثقافتنا، تقليديا في ذهننا، موبوءا بروايات ضعيفة، ومسكونا بهيبة عبر مختلف الأزمان والأماكن.

وهو محور الصراع القادم مع الكيان الصهيوني، فمن يملك القدرة على التحكم في محتوى صندوق الذاكرة، سيخط بثبات وثيقة انتصاره حضاريا، وهو ما تسعى إليه دولة إسرائيل التي توسعت في إنشاء مراكز الدراسات التاريخية، ومن ذلك «أكاديمية العلوم التاريخية في جامعة تل أبيب»، التي اهتمت بدراسة المعارك الإسلامية وفقه الجهاد؛ و»معهد الدراسات الشرقية بالقدس» الذي جمع سجلا ضخما للشعر العربي القديم، وقام بكتابة سيرة نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وفق رؤيته الخاصة، واهتم برصد سير العلماء المسلمين، وقدم العديد من الرسائل العلمية في موضوعات متنوعة كشاخص مقام إبراهيم، وغيرها.

أخيرا، هو التاريخ الذي كان ولا يزال قوة دافعة للأمم الحية، تلك التي تحررت من قراءتها الأيدلوجية، وانطلقت تريد الاستفادة من ماضيها لتقويم حاضرها وبناء مستقبلها، بعقل واع يقوم على إثارة السؤال اللامفكر فيه، أو ما أطلق عليه (سؤال الحيرة الإبراهيمي)، حال البحث في مختلف الوقائع التاريخية والشواهد الآثارية.

zash113@