أحمد بني قيس

المذاهب الأربعة والحقيقة الغائبة

الخميس - 19 يناير 2023

Thu - 19 Jan 2023

لقد أثبت واقع المجتمعات الإسلامية في عصرنا الحاضر عدم تقبله لثقافة الاختلاف جهلا من أصحابه بأن في تبني هذه الثقافة تحقيقا لمنهج شرعي قبل أن يكون فيه تحقيق لمطلب إنساني، ويظهر هذا النفور من الاختلاف بكل وضوح عند التطرق للكثير من المسائل المختلف عليها، سواء داخل تلك المجتمعات أو حتى بينها وبين غيرها من المجتمعات في إهمال تام لحقيقة أن الاختلاف سنة بشرية أوجدها الله سبحانه وتعالى في حياتنا ليس لتعقيدها وإنما لتيسير التعامل مع شؤونها أيا كان نوعها وأيا كان زمانها وأيا كان مكانها، ويقع ضمن هذه الدائرة المعنية بضرورة تبني ثقافة الاختلاف المسائل الدينية «الفرعية» التي من الواجب علينا كمسلمين حسن التعامل مع الاختلاف حولها تصديقا لثابت ديني يشهد بأن الإسلام دوما صالح لإدارة شؤوننا والتكيف مع مستجداتها ما دمنا ودامت هذه الحياة.

وما يؤكد وجود هذه الاختلافات الفقهية التي تتباين في بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بفروع الدين وليس أصوله هو وجود المذاهب الأربعة عند أهل السنة والجماعة المتمثلة في المذهب الحنفي والحنبلي والمالكي والشافعي والتي قال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يعد مؤسس المنهج السلفي عند تناوله لها والتعليق على دواعي وجودها «وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة - المقبولين عند الأمة قبولا عاما - يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه» وفي هذا التصريح من طرف هذه القامة العلمية والدينية الكبرى تأكيد على أن الجميع بإذن الله إلى خير.

ولتعزيز حقيقة تقبل أولئك الأئمة الراسخين في العلم للاختلافات الفقهية الموجودة بينهم وعدم تخطئة بعضهم بعضا بسببها، دعونا نستشهد بما ورد عن الشيخ الألباني حين سئل عن مدى صحة المقولة التي يتم تداولها على لسان الأئمة والعلماء الربانيين عند وقوع الاختلاف بينهم التي تقول ما نصه «نحن نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه» فأكد الشيخ الألباني رحمه الله صحة وصواب هذه المقولة معنى ولفظا وجواز الإشارة إليها والاستشهاد بها، قاطعا بذلك الطريق أمام كل من يشكك في صحتها.

ومما ينبغي ذكره في هذا الإطار أن جميع الأعذار التي تشرعن وجود حالة التباين الفرعي مناط البحث في هذا التناول بين أولئك الأئمة الأربعة «كما ورد عن ابن تيمية» تتلخص في ثلاث حالات، الأولى عدم اعتقاد إمام معين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعين المسألة المثارة، والحالة الثانية عدم اعتقاد الإمام إرادة تلك المسألة بالقول المطروح، أما الحالة الثالثة فهي اعتقاد الإمام بأن الحكم على تلك المسألة منسوخ.

ومما يؤيد جميع ما سبق ذكره بشأن مشروعية الاختلاف بين البشر في إطاره العام وبين الأئمة بشكل خاص قول ابن القيم «تلميذ ابن تيمية»: «إن وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه».

والمعضلة هنا تكمن في هذا البغي الذي حذر منه ابن القيم والذي هو بغي منبوذ شرعا وعرفا كما نعلم ورغم ذلك نراه منتشرا عند الكثير من العامة، بل وحتى عند بعض الدعاة غير المتخصصين الذين يظهرون العداء لكل من يختلف عنهم في أمر أجمعت المذاهب الأربعة على أنه فرع من فروع الدين وقابل للاجتهاد، وفي هذا دليل واضح على أن أغلب هؤلاء المعارضين لوجود هذا الاختلاف يجهلون جهلا مطبقا الفرق بين ما هو أصل يحرم التعدي عليه، وبين ما هو فرع يجوز البحث فيه عند توفر الحجة والدليل التي ترجح صوابه.

وهذا ما تسبب في خلق نوع من الجفاء إن لم يكن أكثر وأعظم بين أتباع المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة وخلق بلبلة في فهم الدين الصحيح وكيفية ممارسته وتطبيقه عندهم مما تسبب في عدم قدرة أو حتى رغبة الكثير منهم في السعي لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوحد والتآلف بينهم والوقوف صفا واحدا ضد أعدائهم وأعداء الإسلام بمختلف مذاهبه.

لذا فإن على كبار علماء هذه الأمة المشهود لهم بالعلم والصلاح التحذير من وجود هكذا حال وتسليط الضوء عليه وشرح فساده للعامة والأخذ على يد كل من يتصدر ويتصدى لهذا الحال وهو ليس أهلا له حتى يتبين الحق من الباطل عند الناس ويصبحوا على بينة من أمرهم خاصة ونحن نعلم أن مثل هذا الإرشاد الديني يساعد بشكل كبير ويسهل على المسلم الحفاظ على دينه وعلى تمسكه به من جانب ويساعده أيضا من جانب آخر على وأد أي نزاعات أو خلافات قد تنشأ عند تناول أي اختلاف فقهي «فرعي» يثار شأنه.

ahmedbanigais@