دحام مبارك الغالب

هجرة القراءة

الاحد - 11 ديسمبر 2022

Sun - 11 Dec 2022

منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما قبل الآن، كنا نستيقظ على صورة آبائنا وهم يتصفحون الجرائد أو المجلات أو الكتب، أثناء احتساء قهوتهم، كان مشهدا يحمل كثيرا من المعاني، ربما من الصعب تفسيرها لجيل الإنترنت والأجهزة الالكترونية؛ لأنهم لم يعيشوا تلك الفترة الذهبية، لكن هناك جيل عاش المرحلتين، وأحس بفراغ الحياة الراهنة من قيمتها الاجتماعية وطعم التواصل الحقيقي وليس الافتراضي.

شتان بين جيل كان يحمل بين يديه ما كتبه أعرق المؤلفين بشتى اللغات، يتصفح بشغف ويتعلم مما يقرأه إلى أن يفصل النعاس بينه وبين كتابه، وبين جيل ينام سابحا في مواقع التواصل الاجتماعي لساعات إلى حد السهر وعدم النوم الجيد. بين جيل كان تبادل وإهداء الكتب يشكل قيمة أسمى مما سواها من هدايا وجيل لا يدرك، بل يتعجب من هذا الأمر.

وبعيدا عن المقارنة بين القراءة كمفهوم مطلق وبين الاستخدام السيئ للتكنولوجيا الحديثة أو إبراز للعيوب أو المزايا، هناك مجتمعات أصبحت تعاني من الكآبة والقلق من سوء استخدام الإنترنت (السوشيال ميديا)، فالقراءة هي الدواء لهذا الداء المتفشي، فهي تساعدنا على فهم طبيعة واقعنا الحقيقي وكيف نتعامل معه وكيف نتحكم فيه، وبالمطالعة سيتولد لدى الإنسان وعي يمكنه من ابتكار وسائل تحد من إدمانه على الفضاء الافتراضي.

وإحقاقا للحق فالإنترنت في حد ذاته ليس مشكلة، بل في سوء استعماله وتوظيفه؛ لأنه إذا كان المطلوب بناء مجتمع القراءة والمعرفة، فنحن بحاجة إلى استنبات ثقافة جديدة عبر مداخل التنشئة الاجتماعية، بالتشجيع على القراءة، نحن نريد مجتمعا يقرأ فيه الجميع، وليس التلميذ والطالب والمدرس فقط؛ فليست القراءة مجرد ترف، بل حاجة أساسية وضرورة ثقافية ملحة.

لقد كتب قدماء المصريين على جدار أول مكتبة أنشؤوها العبارة التالية: «هذا غذاء النفوس وطب العقول». المعنى واضح قوى، فالقراءة غذاء وعلاج في آن واحد؛ بل هي أساس الفكر والثقافة.

إن أبرز الجهات المسؤولة عن أزمة هجرة النشء للقراءة هي الأسرة التي لم تركز في ترسيخ وبلورة عادات القراءة؛ فمعظم بيوتنا تكاد تخلو من مكتبات وأماكن مخصصة للكتب، فغابت عادة القراءة في البيت قبل المدرسة، لتنتهي القراءة بانتهاء مرحلة الدراسة.

إننا في مجتمعاتنا لا نعطى قيمة للكتاب ومعارفه، وقلما نجد أفرادا يقرؤون في الساحات والحدائق العامة. فمن يقرأ يجد نفسه محاطا بنظرات غير مشجعة، وكأن القراءة نشاط غير ذي قيمة، هكذا لا تحفل ثقافتنا بمن يقرأ. كما وأن وسائل الإعلام باتت هي الأخرى مقصرة في ترسيخ ثقافة القراءة في أذهان هذا الجيل وعليها التركيز في بلورة وإبراز هذه الثقافة.

إن للقراءة أهمية كبرى لا يمكن تجاوزها، يتعذر بغيرها صناعة حاضر المجتمع ومستقبله؛ فهي الذاكرة الحضارية ضد النسيان، ورافعة التنمية الحقيقية، والرهان الناجح لاحتلال موقعٍ مشرف بين الأمم.

Daham9920@