عبدالمحسن عبدالله آل مشاري

ماذا يخبرنا منحنى جاوسي؟

الاحد - 04 ديسمبر 2022

Sun - 04 Dec 2022

يعرف غالبنا أو كل من درس شيئا من علم الإحصاء ما يسمى بمنحنى جاوسي ويشتهر بمنحنى التوزيع الطبيعي، ويطلق عليه أيضا المنحنى الاعتدالي، وهو توزيع احتمالي يرتبط غالبا بعلم الإحصاء، ويستفاد منه في مجالات وعلوم متعددة.

ولست هنا بصدد وصف هذا المنحنى وعلاقته بعلم الإحصاء والاحتمالات، فهذا أمر اشتهر به هذا المنحنى وارتبط في أذهاننا بهذه العلاقة وأشبع وصفا وإيضاحا، إنما سأسعى إلى أن أصرف القارئ الكريم إلى المفهوم الذي أسست عليه فكرة هذا المنحنى في صورته التي عرفناها، وكيف جسد لنا هذه الفكرة التي نالت قيمة كبيرة في وصفها لمدى انتشار الظواهر الطبيعية، ثم سأعرض لبعض الأمثلة الحسية التي تقرب المفهوم، لنذهب بعد ذلك إلى ما أظن أننا بحاجة إلى فهمه وتأمله في أنفسنا وفي أبنائنا وطلابنا والناس من حولنا.

وهذا ما أعتقد أنه سيساعدنا -بإذن الله- في تحقيق نجاحات أكثر وفهم أفضل للإمكانات والقدرات التي وهبنا الله إياها ووهبها لغيرنا في امتزاج بديع يمكننا من التكامل والتعايش لتحقيق حياة أفضل.

يمكن أن نلاحظ في الواقع أن كثيرا من الظواهر والسمات والخصائص تتوزع توزيعا طبيعيا في المجتمع المتجانس، ويظهر ذلك جليا في المحسوس منها، ويغيب عنا تأمل هذا الأمر في غير المحسوس. فلو نظرنا مثلا في صفة محسوسة كالطول، فسنجد أن الناس تتفاوت في ذلك ما بين طويل ومتوسط وقصير، وبين هذه الفئات مستويات طول متفاوتة متدرجة، وسنلحظ أننا كلما اتجهنا إلى مستويات الطول الأعلى أو الأقصر وجدنا أن عدد الأفراد في هذه الفئات يقل إلى أن يصل إلى حد الندرة، ونجد أن غالب الناس في مستوى الطول المتوسط أو قريبا منه، والمتوسط هنا نسبة إلى هذا المجتمع الذي ندرسه، لكن قد يكون الطول المتوسط في مجتمع ما طويلا أو قصيرا في مجتمع آخر.

ويعرض الشكل الجانبي مستوى أطوال أفراد عينة ممثلة لمجتمع ما، بمتوسط طول قدره 163 سم وبانحراف معياري قدره 7 سم تقريبا، ومنه يظهر أن 5 أشخاص فقط تتراوح أطوالهم بين 175 إلى 180 سم، ويتناقص عدد الأفراد كلما ازداد الطول، بينما نجد أن 29 شخصا من هذه المجموعة تقع أطوالهم بين 160 و165 سم.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يتوقع أن نجد توزيعا اعتداليا بنسبة 100% للظواهر الطبيعية، بل العبرة باقترابها من التوزيع الطبيعي، ووفقا للقيم الاحتمالية في التوزيع الطبيعي فإنه يمكننا القول إن 68% من أفراد المجتمع الذي سحبت منه هذه العينة تقع أطوالهم بين 156 و170 سم، وأن من يزيد طولهم عن 184 سم أو يقل عن 142 سم يمثلون تقريبا واحد من كل ألف شخص من أفراد هذا المجتمع، أو بمعنى أصح أن احتمال وجودهم في المجتمع يقارب 0.1%.

ولو نظرنا إلى سمات وخصائص أخرى في المجتمع سنجد أنها غالبا تقترب من التوزيع الطبيعي، مثل قياسات مستوى النظر وتفاوت الناس في ذلك ما بين زرقاء اليمامة وبين الأضعف نظرا، أو القوة الجسمانية لو استطعنا قياسها، وهذا المثال الأخير يقودنا إلى الحديث عن الجانب الفطري والجانب المكتسب، وسنتطرق إلى هذا الأمر في أمثلتنا للسمات والخصائص غير المحسوسة.

يحتج بعض الناس بأن الاختلاف في مستوى الذكاء بأنواعه مثلا هو نتيجة لعوامل بيئية واجتماعية، ولا شك أن لهذه العوامل تأثيرها، إلا أن العامل الوراثي هو الأساس، فالقابلية لتنمية الذكاء لدى الأفراد لا تعني أن الذكاء لم يكن في الأساس مولود معهم، وبتفاوت مستويات الذكاء الفطري لدى البشر يتفاوتون في مستوى الفهم والاستيعاب والتحصيل المعرفي.

والذكاء أنواع، فلو وضعنا قياسات لهذه الأنواع على محور التوزيع الطبيعي لمجتمع ما، فسنجد التفاوت في مستوياتها بين أفراد المجتمع، ومن يكن في مستوى متقدم في نوع قد يكون متوسطا في نوع آخر.

ويمكن أن يقال الأمر نفسه في الصفات والقدرات الأخرى التي يتمايز بها البشر؛ فالمزيج الذي تمتلكه أنت أو غيرك من هذه السمات والقدرات هو الذي سيميزك في الميدان الذي يناسبك، وما تبذله في التطوير سيكون أثره كبيرا في تقدمك وعطائك مقارنة بشخص أقل منك فطريا في هذا السمات والقدرات. فكيف إن نجحنا في وضع كل شخص في مكانه المناسب؟ إن احتمالية الفشل ولا شك ستكون أقل ومستوى العطاء سيتضاعف، بل إن تكاليف التطوير المهني ستنخفض ويكون مردودها كبيرا.

إننا بحاجة إلى التعرف على ما يميزنا أو يميز أبناءنا لتوجيههم إلى المجال الأنسب لنضمن نجاحهم، فإن من يضع نفسه أو ابنه في ميدان لا يناسبه ستكون تكاليفه عليه كبيرة فيما يبذله من جهد عقلي وجسدي ونفسي، وقد لا يستطيع منافسة غيره، لكنه قد يكون مبرزا في المجال الذي يناسبه. ومن جانب آخر قد يحقق بعض النجاحات في الطب من لو كان قد اتجه إلى الفيزياء لحقق نجاحا باهرا، ونكون بذلك قد خسرنا عالما في مجال الفيزياء واكتسبنا طبيبا عاديا.

وأضرب مثلا أعود به إلى ما أشرت إليه من أهمية وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، أعرف شخصا منذ الصغر كان والداه يشجعانه على أن يصبح طيار حربيا في المستقبل، حتى استحسن الفكرة وسيطرت على هاجسه، وربما سماها شغفا -وإن كان شغفا مصنوعا-، وعند تقدمه لكلية الطيران فشل في مرحلة الفحوصات، فهو لا يناسب أبدا لهذا المجال، فكان الخير له في أن يبحث عن مجال آخر.

ولعلنا نلاحظ هنا أمرا مهما، وهو أن كليات الطيران لعلمها بخطورة قبول الشخص غير المناسب في هذا المجال، وما يترتب على ذلك من خسائر كبيرة فادحة، وضعت معايير صارمة واحتكمت إليها دون مجاملات، أي أننا قد لا ندرك فداحة خسائر ضعف الانتقاء في مجالات أخرى.

إن ما يمتلكه أفراد المجتمع الواحد من قدرات وطاقات في أي مجال من المجالات مهمة في تحقيق الكفاية التي تصنع الحضارة، ولذا فإن الانكباب على مجالات معينة كمجال التقنية الذي شهد ثورة كبيرة وقيمة متزايدة قد يحرمنا من تحقيق الكفاية في مجالات أخرى، وإن تجاهل بعض مجالات العلوم الإنسانية أو غيرها، وتجاهل تطويرها وانتقاء أفضل القدرات المناسبة لها، هو أيضا يعد إهدارا للطاقات والقدرات، وتوجيها غير مباشر للجميع على أن يتنافسوا في مجالات محددة، والنتيجة الحتمية لذلك هي مزيد من الخسارة.

ولو أخذنا دولة الهند مثالا، فهي قد حققت تقدما كبيرا في المجال التقني، ولكنها تعد بلدا متخلفا لا يمكن أن يؤسس لنموذج حضاري يحتذى. أما الولايات المتحدة على النقيض من ذلك، فإننا نجد أنها صنعت حضارة تقود بها العالم في جميع مجالات العوم الطبيعية والإنسانية، فصارت بذلك مرجعا في كثير من العلوم؛ وما ذاك إلا أنها شملت بالتطوير والاهتمام العلمي المجالات كافة، فعاد اهتمامهم عليهم بالنفع في تحقيق تقدم حضاري غير مسبوق.

ويبقى أن ما جاء في هذا المقال جانبا محدودا عن أهمية هذا الموضوع الذي يستحق منا عناية فائقة وطرحا أكثر عمقا، وحسبي هنا أن أكتفي بما يستثير عقول القراء لمزيد من التأمل.