ياسر عواد المغامسي

أدوات القياس: من خادم مطيع إلى سيد سيئ

الاحد - 06 نوفمبر 2022

Sun - 06 Nov 2022

من بين القواعد التي أجمع عليها علماء الإدارة مقولة: «ما لا يمكن وصفه لا يمكن قياسه، وما لا يمكن قياسه لا يمكن إداراته، وما لا يمكن إدارته لا يمكن تحسينه».

قاعدة يمكن تطبيقها على جميع المستويات، على مستوى الأفراد والمؤسسات، فقياس الأداء خطوة أولى للتطوير والتحسين، ولتحقيق أهداف المنظمة وفق الخطة الاستراتيجية الموضوعة ووفق رؤيتها ورسالتها.

ولهذا القياس أدواته ومؤشراته المتعددة التي من المفترض ألا تتعدى كونها أدوات ومؤشرات لقياس الأداء، هدفها الوقوف على الأداء لتطويره وتحسينه، ولكن كلما زاد استخدام هذه المؤشرات وبدأ الاهتمام بها وأصبحت تؤثر في القرارات والتوجهات، كانت هذه المؤشرات أكثر عرضة للفساد وتشويه وإفساد العلميات المراد مراقبتها ورصدها، وهذا ما نبه إليه عالم الاجتماع دونالد كامبل عام 1976م فيما يعرف بقانون كامبل Campbell›s Law الذي ينص على أنه «كلما استخدم المقياس الاجتماعي الكمي لاتخاذ القرارات الاجتماعية بشكل أكبر، كلما كان أكثر عرضة لضغوط الفساد، مما سيؤدي لتشويه وإفساد العمليات الاجتماعية المزمع رصدها».

وهذا للأسف ما تقع فيه بعض المنظمات والمؤسسات الحكومية والخاصة.

ما كان وسيلة أصبح غاية في حد ذاته، وخاصة في ظل تكرار استخدام هذه المؤشرات والمقاييس واحتدام المنافسة حول المراكز البراقة لهذه المسابقات والمؤشرات، لتطغى وتستأثر بالاهتمام وتصبح هي شغلنا الشاغل وننسى هدفنا الذي من أجله عملنا هذه المؤشرات، ونبدأ في الدخول في متاهات ودهاليز لا نهاية لها، ونخضع ونغير من قوانين وأنظمة منظماتنا ومؤسساتنا من أجل أن تتوافق مع بنود ومعايير تلك المؤشرات، ليس من أجل التطوير والتحسين ولكن من أجل الحصول على مباركة هذه المؤشرات وتحقيق التقدم فيها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، بدءا من جوائز التميز للأداء وانتهاء بالمقاييس الدولية للأنظمة التعليمية في دول العالم، مع تنبيهنا أننا لا نقصد الاستنقاص منها أو تهميش دورها، فهذا ما لا يقوله عاقل، ولكننا ننبه إلى خطورتها عندما تتحول من خادم مطيع إلى سيد سيئ.

وبالمثال يتضح المقال، سأضرب على ذلك بمثال في التعليم: الاختبارات الدولية مثل (TIMSS / PISA) كان الهدف من هذه الاختبارات والمؤشرات مقارنة الأنظمة التعليمية عالميا وقياس قدرة الطلاب على توظيف المعرفة، وفي ظل التسابق المحموم والهالة الإعلامية التي صاحبت نتائج هذه الاختبارات، تحولت هذه الوسيلة والمؤشر إلى هدف وغاية وأصبحت بعض الأنظمة التعليمية تتسابق وتتنافس من أجل تحسين مراكزها في هذه الاختبارات من خلال الاهتمام المباشر بهذه الاختبارات وإعطائها الأولوية على غيرها من أمور مهمة، بل يصل بها الحال إلى أن يكون ذلك على حساب التعليم نفسه، وهذا ما دعا كثير من المهتمين بالتربية والتعليم على دق ناقوس الخطر من تحول هذا الخادم المطيع إلى سيد سيئ.

ولعلي في هذا الصدد أذكر قصة وزير التعليم في دولة سنغافورة (البلد الذي كان يتربع على قمة الهرم في هذه الاختبارات الدولية) عندما سئل: كيف تفسر حقيقة أن سنغافورة ليس لديها سوى العدد القليل من العلماء والمخترعين على أعلى مستوى، في حين أن نتائج امتحانات الطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية في الاختبارات الدولية أسوأ بكثير منا؟ ولكن يبدو أنهم ينجحون أكثر فيما بعد في الحياة والعالم الحقيقي؟

فأجاب الوزير: النظام الأمريكي يعتمد على التحصيل في إطار الموهبة، ونظامنا يعتمد على التحصيل في إطار الامتحان، ثمة أجزاء من القدرة العقلية لم نتمكن من اختبارها بصورة جيدة، مثل الإبداع والفضول وحب المغامرة والطموح.

وهكذا ندرك أنه لو أن النظام التعليمي في الولايات المتحدة اهتم بهذه المؤشرات (الاختبارات الدولية) وجعلها شغله الشاغل، لما استطاع أن يبني له هوية خاصة بنظامه التعليمي.

وعلى ذلك فقس في أخطاء نرتكبها في اعتمادنا على مقاييس ومؤشرات ذات طابع واحد (كمي) وعدم مراعاة الجوانب النوعية والإبداعية، إلى جانب اهتمامنا الزائد بالمقاييس الكمية لتصبح غاية في حد ذاتها، وننسى أننا وضعناها للوصول إلى هدف أسمى وأكبر، فالوسيلة تبقى وسيلة توصلنا للهدف ومتى ما جعلناها هدفا نكون بذلك أضعنا البوصلة التي تقودنا نحو النجاح.

وما نريد أن نقوله: هو أن العاقل من وضع الأشياء في أماكنها، وقدر لكل شيء قدره، فلا ينبغي إعطاء بعض الأمور أكبر من حجمها، لأن ذلك سيحيد بنا عن هدفنا وبغيتنا في التطوير والتحسين.

@yasmh93