هل يجوز الترحم على صدام «سياسيا»؟
السبت - 22 أكتوبر 2022
Sat - 22 Oct 2022
بعد تكليف مرشح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة العراقية، بادر السوداني مباشرة في شكر الله، وشكر «ممثلي الشعب» الذين منحوه ثقتهم، وهنا لا بد من إيضاح حقيقة النسبة التي يعتبرها السوداني ممثلة عن الكل العراقي، فحسب مفوضية الانتخابات العراقية كانت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت قبل عام كامل من تكليفه 41% فقط، ولم يحصد منها الإطار التنسيقي على أغلبية برلمانية، ما يعني أن معدل الثقة الممنوحة شعبيا للإطار التنسيقي وللسوداني قد تتراوح في معدل 10% إلى 15% فقط في أفضل أحوالها من الكل العراقي، ومن هذه الزاوية، أي إذا ما قرر السوداني اعتبار دوره المكلف به موثوقا من الكل العراقي، يمكن مقارنته بسابقيه من رؤوس السلطة وصولا إلى حقبة حكم حزب البعث وزعيمه الأبرز صدام حسين، الذي كان لافتا أن يتندر على حقبته عراقيون مناهضون للطبقة السياسية بعد تكليف السوداني، وبحجة استمرار العراق في الخنوع للإرادة الإيرانية، باتوا ينعون «سياسيا» أيام نظام البعث كحامي حمى العرب ومصدر اعتزاز للعراقيين.
وما قد يدعو إلى التساؤل عن منطقية هذا الترحم السياسي، وليس جدواه كماض منته إلى الظلامية التي يبدو أنها غير متناهية في الحالة العراقية، هو التشابه السلوكي بين كافة السلطات المتعاقبة على العراق منذ 2003 وحتى هذا السوداني، فهم في الحقيقة ليسوا سوى امتداد أشبه بالتوريث الجيني من صدام حسين نفسه، فكلهم يتخذ منهجا يستهدف من خلاله صبّ قالب واحد في أذهان الجميع بدوافع نفسية واجتماعية، وهذا لا يعود عليهم كأفراد مستقلين؛ وإنما هي ظاهرة متعددة الأبعاد ترتبط بالسلطة وبالمجتمع العراقي؛ لذا فإن من يصنف صدام حسين على أنه مختلف عن الذين أعقبوه هو فقط ينظر إليه من على السطح دون أن يخوض في أعماقه النفسية، أو أن يمر على حالة المزاج الاجتماعي لدى العراقيين.
منذ ظهور الدولة الحديثة، التي تسمى أيضا الدولة القومية/ الوطنية، لم يعد الكلام عن العرقية بصفتها وعاء حاملا وموحدا للأفكار كلاما دقيقا، إذ أصبحت الحدود الوطنية هي الخط الفاصل، ليس أمام حركة البشر والسلع فحسب، بل حتى أمام الأفكار والطبائع والفنون والمعتقدات التي تشكل مجتمعة صفات أخلاقية ومزاجا اجتماعيا وحالة نفسية تكاد تكون أقرب إلى الثبات في المجتمع، وهذا ما يمكن من خلاله التمييز بين مجتمع ما ومجتمع مجاور له في شكل الدولة الحديثة، وإثبات هذه الفرضية سهل إذ يتطلب فقط النظر في تشابه المجتمعات ذات العرق الواحد في الصفات التشريحية مثل اللون واللغة والبنية الجسمانية في مقابل تباينها فيما عداها مثل الصفات الأخلاقية والعادات والتقاليد والمعتقدات وغيرها، إذ لا يمكن أن نقول، على خلاف أدبيات التاريخ، أن المجتمع العربي هو كل متشابه، بل هو عبارة عن 21 تجمعا محليا وعشرات التجمعات الأخرى في المهجر، يتفرد كل تجمع منهم بصفاته ويشكلون في مجموعهم مجتمعا هجينا لا يتوحد إلا في صغائر الصفات المشكلة للمزاج العربي العام.
وهذا يجعلنا نفترض أن أي مجتمع لا يتسم بالتجانس يكون من الصعب عليه أن يتوحد، وبالإمكان هنا إسقاط هذا الافتراض على دول مثل السودان ولبنان واليمن وربما سوريا أيضا، فالتعددية المتعمقة التي هي بخلاف التنوع الإيجابي، بطبيعتها تجعل المصالح متعددة أيضا وربما متضادة في بعض الحالات، ونتيجة لذلك ستكون المشاعر الوطنية بالضرورة متعددة كذلك وفقا لتعدد المرجعيات العقدية والأخلاقية، وهذا بالضبط ما يمكن الانطلاق منه لتشخيص الحالة العراقية من حيث المزاج الاجتماعي والأعماق النفسية للسلطة، وهو سبب ما يمكن وصفه بالاعتلال الاجتماعي الذي يقسم المجتمع العراقي وسلطته إلى قسمين هما: أجزاء تفتت المجتمع العراقي إلى تجمعات صغيرة قد تسمى أيضا مكونات المجتمع، وتمتلك هذه الفتائت جميعها قياديين وأتباعا لهم طبائعهم وأفكارهم ومعتقداتهم، ويتشكل بناء عليها مزاجهم الاجتماعي الضيق تحت مستوى الدولة. والقسم الآخر: هو الكل المكون من هذه الأجزاء مجتمعة يلحق به اسم العراق كتعريف مجرد من أي تأثير على المزاج الاجتماعي.
وهذا ما يقود الدولة العراقية إلى أن تصبح سلطتها الممثلة عن الجزء فقط -منذ صدام حسين- سلطة مضادة للمجتمع (الكل)، وبالتالي فهي تسحب مزاجها الاجتماعي التحتي إلى تعميمه والنظر من خلاله إلى الكل، وتكرس نفسها للعمل من أجل الجزء فقط من خلال معاداة الكل والاستهانة به، بل وربما محاولة محوه أو صهره كليا تحت هذا الجزء، وهذا الدور غير مصحوب بأي شعور بالندم لا من صدام حسين ولا من إياد علاوي أو نوري المالكي والآخرين جميعهم، بل صار مدعاة للمفاخرة ومستندا لإثبات الحق والأحقية، سواء من حيث رؤوس السلطة أو حتى من حيث الأتباع؛ أي أنه أصل متجذر في تركيبة الحالة الاجتماعية ويتجلى في السلطة العراقية، وبالتالي ليس من المنطقي أن تُنعى حقبة البعث وهي تشترك بذات جذر الاعتلال مع كل الحكومات التي أعقبتها.
إلا أن هناك حالة واحدة في مستقبل العراق قد تدحض صراحة كل ما سبق ذكره، وهي أن ينجح السوداني في خلق حالة من التجانس واستيعاب الكل العراقي، ثم يكسب ثقة البرلمان حول تشكيل الحكومة العراقية ضمن المدة الدستورية المقررة بثلاثين يوما منذ تكليفه، وما يحتاجه إزاء هذه المهمة هو إيجاده صيغة توافقية مع الكتل البرلمانية الداعمة له والمختلفة فيما بينها في نفس الوقت، مع ضمانه أيضا عدم تدخل التيار الصدري في زعزعة المشهد السياسي، خلال رفض الحكومة قبل تشكيلها، أو حشد الأتباع ونزولهم ثانية وثالثة إلى الشارع، أو بالاعتراض مجددا على آليات التشكيل وعرقلة المسار الديمقراطي بعد عودة العراق إليه، قبل أن يصبح السوداني ورقة أخرى محروقة يتجرع علقمها الكل العراقي وحده، دون الإطار التنسيقي وبقية الفتائت.
وما قد يدعو إلى التساؤل عن منطقية هذا الترحم السياسي، وليس جدواه كماض منته إلى الظلامية التي يبدو أنها غير متناهية في الحالة العراقية، هو التشابه السلوكي بين كافة السلطات المتعاقبة على العراق منذ 2003 وحتى هذا السوداني، فهم في الحقيقة ليسوا سوى امتداد أشبه بالتوريث الجيني من صدام حسين نفسه، فكلهم يتخذ منهجا يستهدف من خلاله صبّ قالب واحد في أذهان الجميع بدوافع نفسية واجتماعية، وهذا لا يعود عليهم كأفراد مستقلين؛ وإنما هي ظاهرة متعددة الأبعاد ترتبط بالسلطة وبالمجتمع العراقي؛ لذا فإن من يصنف صدام حسين على أنه مختلف عن الذين أعقبوه هو فقط ينظر إليه من على السطح دون أن يخوض في أعماقه النفسية، أو أن يمر على حالة المزاج الاجتماعي لدى العراقيين.
منذ ظهور الدولة الحديثة، التي تسمى أيضا الدولة القومية/ الوطنية، لم يعد الكلام عن العرقية بصفتها وعاء حاملا وموحدا للأفكار كلاما دقيقا، إذ أصبحت الحدود الوطنية هي الخط الفاصل، ليس أمام حركة البشر والسلع فحسب، بل حتى أمام الأفكار والطبائع والفنون والمعتقدات التي تشكل مجتمعة صفات أخلاقية ومزاجا اجتماعيا وحالة نفسية تكاد تكون أقرب إلى الثبات في المجتمع، وهذا ما يمكن من خلاله التمييز بين مجتمع ما ومجتمع مجاور له في شكل الدولة الحديثة، وإثبات هذه الفرضية سهل إذ يتطلب فقط النظر في تشابه المجتمعات ذات العرق الواحد في الصفات التشريحية مثل اللون واللغة والبنية الجسمانية في مقابل تباينها فيما عداها مثل الصفات الأخلاقية والعادات والتقاليد والمعتقدات وغيرها، إذ لا يمكن أن نقول، على خلاف أدبيات التاريخ، أن المجتمع العربي هو كل متشابه، بل هو عبارة عن 21 تجمعا محليا وعشرات التجمعات الأخرى في المهجر، يتفرد كل تجمع منهم بصفاته ويشكلون في مجموعهم مجتمعا هجينا لا يتوحد إلا في صغائر الصفات المشكلة للمزاج العربي العام.
وهذا يجعلنا نفترض أن أي مجتمع لا يتسم بالتجانس يكون من الصعب عليه أن يتوحد، وبالإمكان هنا إسقاط هذا الافتراض على دول مثل السودان ولبنان واليمن وربما سوريا أيضا، فالتعددية المتعمقة التي هي بخلاف التنوع الإيجابي، بطبيعتها تجعل المصالح متعددة أيضا وربما متضادة في بعض الحالات، ونتيجة لذلك ستكون المشاعر الوطنية بالضرورة متعددة كذلك وفقا لتعدد المرجعيات العقدية والأخلاقية، وهذا بالضبط ما يمكن الانطلاق منه لتشخيص الحالة العراقية من حيث المزاج الاجتماعي والأعماق النفسية للسلطة، وهو سبب ما يمكن وصفه بالاعتلال الاجتماعي الذي يقسم المجتمع العراقي وسلطته إلى قسمين هما: أجزاء تفتت المجتمع العراقي إلى تجمعات صغيرة قد تسمى أيضا مكونات المجتمع، وتمتلك هذه الفتائت جميعها قياديين وأتباعا لهم طبائعهم وأفكارهم ومعتقداتهم، ويتشكل بناء عليها مزاجهم الاجتماعي الضيق تحت مستوى الدولة. والقسم الآخر: هو الكل المكون من هذه الأجزاء مجتمعة يلحق به اسم العراق كتعريف مجرد من أي تأثير على المزاج الاجتماعي.
وهذا ما يقود الدولة العراقية إلى أن تصبح سلطتها الممثلة عن الجزء فقط -منذ صدام حسين- سلطة مضادة للمجتمع (الكل)، وبالتالي فهي تسحب مزاجها الاجتماعي التحتي إلى تعميمه والنظر من خلاله إلى الكل، وتكرس نفسها للعمل من أجل الجزء فقط من خلال معاداة الكل والاستهانة به، بل وربما محاولة محوه أو صهره كليا تحت هذا الجزء، وهذا الدور غير مصحوب بأي شعور بالندم لا من صدام حسين ولا من إياد علاوي أو نوري المالكي والآخرين جميعهم، بل صار مدعاة للمفاخرة ومستندا لإثبات الحق والأحقية، سواء من حيث رؤوس السلطة أو حتى من حيث الأتباع؛ أي أنه أصل متجذر في تركيبة الحالة الاجتماعية ويتجلى في السلطة العراقية، وبالتالي ليس من المنطقي أن تُنعى حقبة البعث وهي تشترك بذات جذر الاعتلال مع كل الحكومات التي أعقبتها.
إلا أن هناك حالة واحدة في مستقبل العراق قد تدحض صراحة كل ما سبق ذكره، وهي أن ينجح السوداني في خلق حالة من التجانس واستيعاب الكل العراقي، ثم يكسب ثقة البرلمان حول تشكيل الحكومة العراقية ضمن المدة الدستورية المقررة بثلاثين يوما منذ تكليفه، وما يحتاجه إزاء هذه المهمة هو إيجاده صيغة توافقية مع الكتل البرلمانية الداعمة له والمختلفة فيما بينها في نفس الوقت، مع ضمانه أيضا عدم تدخل التيار الصدري في زعزعة المشهد السياسي، خلال رفض الحكومة قبل تشكيلها، أو حشد الأتباع ونزولهم ثانية وثالثة إلى الشارع، أو بالاعتراض مجددا على آليات التشكيل وعرقلة المسار الديمقراطي بعد عودة العراق إليه، قبل أن يصبح السوداني ورقة أخرى محروقة يتجرع علقمها الكل العراقي وحده، دون الإطار التنسيقي وبقية الفتائت.