سليمان محمد الشريف

حقيقة القبيلة وعلاقتها بالنسب

السبت - 29 يناير 2022

Sat - 29 Jan 2022

كنت قد كتبت في مناسبة سابقة عن القبيلة وعلاقتها بالنسب، وتناوله البعض بطريقة سلبية خرجت عن المفهوم العام، وابتعد الكثير عن الفكرة والمفهوم الرئيس الذي كان موجها لتداخل الأنساب مع بعضها البعض داخل القبائل، وأهمية نبذ التعصب والنعرات، والاقتناع بالواقع حتى يتعايش الجميع مع بعضهم البعض سيما إذا ما نظرنا لذائبية القبائل اليوم وعلاقتها بالنسب الأصلي لمجموعاتها.. وسأحاول من خلال هذه المساحة التوضيح علني أضع النقاط على الحروف.

يقول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) وهنا بيان من الله سبحانه على أن الناس سواسية وكلهم من نفس واحدة وجعل لها زوجها آدم وحواء وجعلهم شعوبا أكبر من القبائل ومن القبائل الفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ، وكل يرجع إلى قبيلته أو مخلافه، كأن نقول إن فلان ابن فلان الفلاني من قبيلة كذا وكذا في الأصل بالحلف، ففي بعض القبائل كان الناس ينسبون إلى مخاليفهم وفي عرب الحجاز إلى قبائلهم، وهناك في العرب منهم أعظم وأفضل نسبا، والإسلام شرف النسب ولكنه نهى عن المفاخرة لعصبية الجاهلية، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على التمسك بالأنساب لما في ذلك من فضل كبير حيث قال عليه الصلاة والسلام: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثرأة في المال، منسأة في الأثر»، وفي ذات السياق نهى عليه الصلاة والسلام عن التعصب والنعرات وهو الذي لم يتعصب لنسبه الذي يعد أشرف الأنساب لعلمه أن النسب لا يزيد في المرء متى ما نقص في دينه، ولما كسع غلام من المهاجرين غلاما من الأنصار في غزاة بني المصطلق، واستغاث الأول: يا للمهاجرين، ونادى الآخر: يا للأنصار، سمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما بال دعوى الجاهلية، فحكوا له ما جرى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دعوها فإِنها منتنة».

ومهما عظم نسب المرء تظل المفاضلة بين الناس في طاعة الله سبحانه ومتابعة ما جاء به رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فجميعهم من أصل واحد ومن نسل آدم عليه السلام، ويظل لكل شخص نسبه الذي ينسب إليه في الأصل كما يقال: فلان ابن فلان من كذا وكذا أي قبيلة كذا وكذا، ومهما فضل نسب على آخر فقد نهى الإسلام دين المساواة والعدل عن احتقار الناس لبعضهم البعض، مخبرا الجميع أنهم من البشرية جمعاء لا فرق بين أحد على أحد إلا بالتقوى.

وكما هو معروف أن القبيلة في المفهوم العام هي مجموعة من الناس تختلف أعدادهم بعضهم عرف من نفس المكان نسبا لجد أو مكان ثبت نسبه بسند أو لم يثبت، وبعضهم دخلوا في فترة زمنية محددة ومعروف نسبهم سواء أبقوا عليه أو تخلو عنه واجتثوه ونسبوا للقبيلة، وبعضهم حافظوا على نسبهم الأصلي وأمسكوا بعصاهم من المنتصف ما بين حليف وأصيل، ومنهم من عرف في المكان سواء نسب أو لم ينسب وعرف باسم المكان سواء نسب هذا المكان لشخص أو رمز لحلف أو لأم القبيلة أو لغير ذلك، وبعضهم لم يعرف له نسب ونسب إلى القبيلة أبا عن جد وعاشوا جنبا إلى جنب مع الجميع.

‏والمعروف أن غالبية القبائل شهدت نزوحا وتداخلات في أزمنة مختلفة منها البعيد ومنها القريب، وهو ما يعرف اليوم بين القبائل المعاصرة التي تكونت من تحالفات وتجمعات تآزرت واتفقت على اسم، وجاء من تلك القبيلة بطون وعشائر وفخوذ اتخذت لها أسماء متفق عليها بنفس السياق، وهنا تحقيقا لما ورد في الآية الكريمة السابقة فالجميع سواسية متى ما كرمهم الله بالتقوى فرق التقاضي الحقيقي، ولكن يبقى لكل صاحب نسب أن يحفظ نسبه كان داخل هذه القبيلة أو خارجها تحقيقا لما ذكر سابقا في قول رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس عارا أن يعترف المرء بأصوله الأولى وتحالفه اليوم.

‏والقبيلة هي خبر في خطاب موجه من رب السماء في القرآن والسنة إلى الخلق، مضمونه أن الناس خلقوا قبائل وخلق كل قبيلة في موطنها الذي عاش فيه الجد الأول وتنسب إليه القبيلة، وهذه القبيلة مثلها قبائل كثر أتت من جد أكبر انحدر من جد أكبر حتى يعود الجميع لأبناء نوح عليه السلام والذي أتى منهم أنسال الناس في المعمورة: بيض وحمر وسمر وخمر وسود، ونسل أبناء نوح كانوا في مواطنهم ومن نسلهم انتقلوا لمواطن أخرى وانصهروا وحلوا فيها وعرف منبته ثبتا، ومنهم من انتقل وحل ولم يعرف أصله ومكانه الأصلي بسند وعاش واندمج، كما أن هناك قبائل كثيرة لم تنتقل ولم تسمح بالتداخل أو الانصهار وظلت في موقعها وحافظت على نسبها الأصلي وهي قبائل كثيرة معروفة.

تبقى القبيلة نسيجا اجتماعيا مهما يجب أن يستمر ومن يطالب بإلغائها وصهرها وحل نسيجها، هو بلا شك لديه مشكلة ويعاني من عقدة القبيلة، ومن هؤلاء في الأصل كان لهم قبائل وهم ما يسمى بـ»الحضر» بعضهم من خارج الجزيرة العربية وبعضهم منها في أسر خرجت منذ عصور من قبائلها، وقد يكون من المطالبين بصهر القبائل من أبناء «القبائل» نفسها أو ما يسمون بالـ «البدو»، وهنا قد يتفق معهم فئة تؤيدهم في خطاب الصهر والإلغاء، وهذا شأن، أما الشأن الأهم فهو الذي يجب أن يتفق عليه الجميع وهو بقاء النسيج القبلي ونبذ التعصب والتحقير والتنابز وغيرها من الإسقاطات للبدو وللحضر.

‏ختاما وعلى سياق التداخلات والتحالفات وعلى ضوء اختلاط الأنساب واختلاف الأعراق من المفروض اليوم أن يتعايش الجميع أبناء القبائل الأصليين مع المتحالفين والعكس بلا تعصب أو انتقاص، فالتغيير أو الإبقاء على النسب الأصلي صهر الجميع تحت اسم جد واحد لن يبدل من الحقيقة -فعلي بن عبدالجبار «الفلاني» وأسرته- ومطيع بن عبدالحميد «الفلاني» وأسرته، هما من نفس الفخذ وتحت مظلة العشيرة وبطن القبيلة يحملان نفس الجد ولا علاقة بينهما في النسب، غير أن التضامن والتباين في العلاقات ومراكز القرار والحواشي والتبعيين والجاهليين والمنافقين يؤلبون وفق مصالحهم، وهذا بلا شك يخل بمقتضيات ونظام القبيلة وهذا ما جعل القبيلة اليوم تعاني من التفكك والتكتلات والاختلافات والخلافات.

‏نقطة أخيرة: فكرة التحكم بالعقول تمرست عليها المداومة ما بين كاذب يرقص على حبال المتلونين وصادق في زاوية الدفاع عن نفسه.