روان آل عبد المتعالي

ما يكشفه لك التفكُّر

الخميس - 20 يناير 2022

Thu - 20 Jan 2022

في دورة ألقاها د. محمد العمري والمعنونة بـ «المدخل إلى اللغة العربية» ذكر قصة في إيجازها أنه التقى شيخا طاعنا في السن كان قد حدثه عنه صاحبه واصفا إياه بكونه ضليعا في اللغة العربية، وله فيها من الاكتشافات ما لم يَسمَع به عند أحد من قبل، فسعى للقائه متشوقا لمعرفة ما بجعبة هذا الرجل، قال فلازمته أربعين يوما لأنهل من علمه، فقص علي من أمره ما أثار عجبي، يقول: كنت عاملا في صغري عند أحد الأمراء، مكلفا بأخذ يد المفتي آنذاك عند كل صلاة من محل إقامته إلى المسجد، منتظرا إياه، لأعيده إلى بيته، وكان المفتي لا يتركني للفراغ فيوجهني إلى حلقات مجاورة ريثما ينتهي من إلقاء درسه وإفتاء الناس، فتعلمت منها حروف الهجاء، فوقع مني بعد ذلك خطأ قضيت بسببه خمس سنوات في السجن، فأخذت في عزلتي هذه أشغل نفسي بأفكاري، وما كنت أعرف في حياتي غير الحروف التي كنت تعلمتها، فأشغلت نفسي بها أيما إشغال، فصرت أتفكر فيها وأتساءل عن سر مجيئها على نمط واحد، ولمَ هي مرسومة بهذا الشكل؟ ولمَ سمي حرف الكاف كافا؟ والحاء حاء؟ وقس على ذلك بقية الحروف. فلما خرج من سجنه يحمل عبء هذه الأسئلة عكف على دراسة الأمر والتبصر فيه والتوغل بحثا عن جوابه، فتوصل لمراده بعد سنوات في سابقة لم يأت بها أحد من الأولين، وذكر الدكتور تتمة القصة في دورته.

ما دفعني لأن أستهل حديثي بهذه القصة، هو أني أقارن أحيانا بين أهل هذا الزمان في إبداعهم واكتشافهم للمعرفة والعلوم، وبين سابقيهم، فتلحظ أن ما عند الأوائل هو نتاج تبصر في كل ما في هذا الوجود من معنى ومادة بتجرد، ثم التأني في البحث عن تفسير وتحليل كل ما يطرأ عليهم من أفكار وتساؤلات، فجاؤوا بما ينفع البشرية محدثا في حياتهم الشيء الكثير.

وهذا جواب ناقص لعله يحتاج بحثا أوسع على تساؤل أطرحه على نفسي، لمَ تكاد الإنتاجات العلمية والأدبية وغير ذلك في معظمها الآن تشبه بما قد أصفه بالوجبة سريعة التحضير ناقصة المقادير، وما جاءت بجديد يذكر عما قبلها، بل أني أزعم أن ما ينتج الآن في أغلبه ما هو إلا إعادة تدوير للقديم بصيغ وأساليب مختلفة قد يضاف له ما لا يكاد يلاحظ حتى يحدث فارقا! والسبب في تصوري أرجعه إلى عالم رقمي تورطنا بمواكبة سرعته فانعكست طبيعته على واقعنا، إذ أفقدَنا مزية التأني، والتأمل، والتفكر في كل ما يحيط بنا وبدءا من أنفسنا.

فمن منا يصون أفكاره؟ فلا يتعجل لفظها بل يمنحها الفرصة لأن تأخذ حقها في النمو داخل ذهنه، بعيدا عن آراء الآخرين فتشوهها وتحط من قدرها وقد تقتلها في مهدها، والأولى استبقاء أي فكرة في مكان مولدها على أن تغذيها صابرا بالتمعن فيها وسبر أغوارها والبحث والتقصي في كل ما يتعلق بها، لتخرج في وقتها المناسب بعد وقت طويل وفي كنفها نتائج واضحة، وإجابات عنها شافية، أكيدة أو تقريبية على أقل تقدير، وهذا ما لا نستطيع عليه صبرا الآن، وأنا أظن أن السابقين ما كان لهم أن يظفروا بما أنجزوا في معظم الحقول والميادين لولا أنهم حرصوا على نمو أفكارهم بصبر كاف إلى أن نضجت فصارت جاهزة لأن توضع في قوالبها، إما في كتاب أو اختراع، أو غير ذلك مما يحفظ للزمن وللأجيال القادمة.

فلو أن هذا الشيخ العالم الذي بدأت به حديثي أصابه ما أصابنا من هوس التعجل متورطا معنا في عالم بالكاد نستطيع لمجاراته أن نسترد النفس، وفضل أن يطرح أسئلته – التي عبر الدكتور عن نتائجها بقوله: «المشاريع العظيمة تبدأ بأسئلة مجنونة» – في مواقع التواصل، فيختزلها في تغريدات أو تدوينة أو حتى في كتاب قبل أوانه، فتصور ردود الفعل من سخرية ودعوة إلى مواجهة الفراغ والانشغال بما يفيد وينفع، وفي أحسن الأحوال لن تتجاوز المسألة إن هي أثارت فضول الناس أن تكون قضية نقاش لتمرير الوقت لن يطول بها المدى حتى تغيب عن الأذهان.

ولو أنه أقدم على ذلك لما حدث ما حدث، فقد ذكر أنه بعد خروجه من السجن تعلم 7 لغات من اللغات السامية باقية الأثر، لارتباطها الوثيق فيما كان يتساءل عنه، ليصل منها إلى ما وصله من علم واكتشاف عجيب، والذي آمل أن يسعفه الوقت لتضمينه في كتاب أجزم على أنه سيكون من أعظم ما كتب حول علوم اللغة العربية في هذا الجانب، وما هو بمستحيل على غيره أن يأتي بسابقة في أي من المجالات في زمننا هذا، فليس إنسان الماضي بذي عقل متمايز في خلقته التي خلقه الله عليها عن إنسان الحاضر، يكفي المرء أن يُعطِي فيُعطى، فأعط الحياة من حولك حقها من التفكر، وستجد منها ما يذهلك اكتشافه عنها.