بندر الزهراني

تحالف ما فوق القبيلة في المشهد الأكاديمي!

السبت - 08 يناير 2022

Sat - 08 Jan 2022

في الأيام الماضية أثير جدل واسع بعد حديث عالم الأنثروبولوجيا سعد الصويان عن اضمحلال دور القبيلة وتلاشيه وانحساره عما كان عليه في السابق، فهو يرى أنه من المفيد لتعزيز المواطنة تبني برنامج للتزاوج بين مختلف مكونات المجتمع، سواء الدينية أو العرقية، والهدف من ذلك القضاء على دور القبيلة، وصهر طوائف المجتمع وأعراقه في عائلة واحدة، وهذا الرأي وإن بدا غريبا ومستحيلا أو مرفوضا ومستبعدا -على الأقل في الوقت الحاضر- إلا أن بواعثه حسنة، ودوافعه وجيهة، ولو تحققت هذه الأفكار أو شيء منها لربما نجحنا في القضاء على مظاهر الفساد خاصة تلك الناشئة بسبب التحزب لعرق أو الانتصار لعادة.

حضور مفهوم القبيلة في المشهد الأكاديمي ربما يكون أسوأ منه في المشاهد الحياتية العامة، وهذه الحالة وإن بدت شاذة في العرف الأكاديمي إلا أنها ليست طارئة أو مستحدثة، بل هي واحدة من تناقضات المجتمع الأكاديمي المحلي، فعلى سبيل المثال: في قضايا توظيف الأقارب بعض الإدارات الأكاديمية تنادي بالمساواة والعدل، وتتصنع المثالية، ولكنها تقع في أبشع صور الفساد الممكنة في هذا المجال، ودون إحساس بالذنب أو شعور بمخالفة النظام.

المفهوم الذي نخصه بالحديث هنا أكبر من مفهوم القبيلة المعتاد والمحصور في مجموعة من الناس تنتسب لأصل واحد، لماذا؟ لأن دواعي طلب المعيشة والاستقرار أو بناء تحالفات كانت تمثل هواجس منطقية من أجل الحماية والدفاع لم تعد اليوم ذات أهمية في ظل وجود الدولة العصرية، وإنما المفهوم الذي نقصده هو مفهوم تحالف ما فوق القبيلة، وهو التحزب وبناء تكتلات أو (شلل) لا يربطها ببعضها إلا روابط المصلحة الخاصة، والاستنفاع بأموال ومصالح العامة، والمشكلة هنا تبدو مركبة ومعقدة، والقضاء عليها يحتاج مجهودا ووقتا ومنهجية محددة.

سأعطيكم مثالا بسيطا لما أود قوله عن مفهوم تحالف ما فوق القبيلة، وهو مثال مضحك ومحزن في الوقت نفسه: لنفرض أن رئيس الجامعة (أ) رشح بطريقة ما أحد أفراد تحالفه (ب) لرئاسة جامعة أخرى، فلما أصبح (ب) رئيسا للجامعة الأخرى عيّن ابن الرئيس (أ) عميدا عنده لإحدى الكليات، وبعد مدة من الزمن، ولما شارفت مدة تعيين (ب) على الانتهاء عاد وعيّن ابن الرئيس إياه عميدا لكلية أخرى، ليصبح ابن الرئيس (الكتكوت) عميدا لكليتين في وقت واحد، وهذه لعبة غبية، وحركة مكشوفة، الغرض منها كسب رضا وتأييد (أ) الساعي لإعادة تعيين (ب) واستمراره في منصبه، والجانب المحزن في هذه الفرضية أن العملية الإدارية في الجامعتين ألف باء تهريج!

يقال إنه في إحدى الجامعات جاءهم شاب من خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، متقدما على وظيفة أستاذ مساعد، فشكلوا لجنة لدراسة طلبه والنظر في وضعه، وبعد أخذ ورد طلبوا منه تقديم ندوة علمية كي يتسنى لهم الحكم عليه، المتقدم كان شابا طلق المحيا، يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ومتمكنا بجدارة مما يتحدث عنه من علوم، وكان لطيفا لبقا، مفوها وسريع البديهة، ويجيب على كل أسئلتهم، ولما اشتد الخلاف بينهم أيقبلونه على تفوقه وهوانهم أم يدسونه في التراب، سُمع صوت خافت يقول: اقبلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، فلم يقبلوه.

هؤلاء لا تعني لهم القبيلة أو روابط النسب شيئا إذا ما انخرطوا في تشكيلات من الفساد الإداري، وامتلأت جيوبهم وأرصدتهم البنكية بمخصصات اللجان الدائمة والأبحاث التطويرية، ذلك أن الفساد المبطن بكل مصلحة خاصة، والمغلف ظاهره بحب الخير للناس وتقديم المساعدة لهم، هو أسمى عندهم من الأعراف الأكاديمية وأخلاق القبيلة الحميدة، صدقوني إن القبيلة والوطنية بريئتان منهم، ولا دخل لهما بما يفعلونه من أفعال لا تخدم إلا مصالحهم الشخصية.

في اعتقادي أن قبيلة العقلاء باقية ما بقيت الأخلاق واستقامت تعاملات الناس وتأطرت بتعاليم الدين السمحة، وكانت الدولة العصرية حاضرة بأنظمتها القوية وأجهزتها الرقابية، وأن دور القبيلة الإيجابي باق ومؤثر في تعزيز اللحمة الوطنية، وإن كنت أجد لعالم الأنثروبولوجيا المبجل مبرراته الوطنية ودوافعه النبيلة، ولولا أن الشيطان كائن ذكي (كصفة إنسية) لقلت إن تحالف ما فوق القبيلة تحالف شيطاني، إلا أنه مرض خبيث يجب اجتثاثه، وتطهير المجتمعات الأكاديمية منه.

drbmaz@