طارق علي الصالحي

حلول عملية لرفع نسبة القبول الجامعي بالتخصصات الحيوية وإعادة هيكلة التقليدية

السبت - 20 نوفمبر 2021

Sat - 20 Nov 2021

عندما تشاهد أعداد الطلاب والطالبات الملتحقين في بعض التخصصات التقليدية غير الحيوية في جامعاتنا الحكومية،  يتبادر إلى ذهنك نوع العلاقة بين هذه التخصصات والحراك العالمي المتسارع نحو المجالات الحيوية بشقيها العلمي والمهني كالطب، والتقنية ، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الالكترونية، وإدارة اللوجستيات وسلاسل الإمداد، والأمن السيبراني، وقطاعات التعدين، والهندسة الكيميائية والنووية، وهندسة الفضاء والطيران، وحتى الرياضة والفندقة والفن والترفيه.

فلا يكاد يختلف اثنان على أن الوقت قد حان لإعادة النظر في التخصصات التقليدية المطروحة حاليا في جامعاتنا خصوصا بعد إطلاق قائد التغيير ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مجموعة من البرامج التي تستهدف التوجه العالمي نحو المجالات الحديثة والتي كان آخرها برنامج تنمية القدرات البشرية الذي صنفه ولي العهد كاستراتيجية وطنية تعزز مهارات وقيم المواطن والمواطنة وتنمي معارفهم وتمكنهم من التعرف على أنماط العمل الحديثة التي تواكب متطلبات سوق العمل المحلي والدولي بكافة مجالاته الصحية والصناعية والتجارية.

فأغلب التخصصات التقليدية التي أنشئت الجامعات الحكومية من أجلها قبل عقود ماضية لم تعد ذات جدوى في وقتنا الحاضر، ولا تخدم توجهات الدولة الواعدة، وتشبع سوق العمل منها، وباتت بعيدة عن ما يدور بعالمنا الخارجي. ليس هذا فقط، بل أصبحت هذه التخصصات لا تتوافق مع خطط التحول الوطني المتجهة نحو المجالات التي تخدم الاقتصاد السعودي وتتماشى مع القفزات النوعية التي حققتها المملكة ورؤيتها الثاقبة 2030 في التقنية، والحوكمة، والحكومة الالكترونية، واستقطاب الشركات العالمية، وغيرها من التطورات التي تستدعي اهتمام أكبر من قبل الجامعات السعودية في استقطاب العلوم الحديثه وتطوير القائم منها لتوفيرمشغلين وقياديين من أبناء وبنات الوطن توازي خبراتهم أقرانهم في الدول المتقدمة التي لا تقل عنا طموحا ومالا وجدية. 

ولكي نحدد نوع الدواء لابد من تحديد مكمن الداء، وهنا لابد من إعادة النظر في نوع العلاقة بين مخرجات الجامعات الحكومية وسوق العمل لوضع حلول جذرية وعملية تمنع زج طلابنا وطالباتنا في تخصصات تقليدية غير حيوية تخطاها الزمن لأسباب خاطئة تم توارثها «أكاديميا» بدون أساس علمي متين، كاشتراط «المعدلات التعجيزية» للقبول بالتخصصات الحيوية خصوصا العلمية منها كالطب والهندسة ليس لعدم كفاءة المتقدمين وإنما لتقليص عدد المقبولين!. فالكثيرمن الجامعات الحكومية تستخدم المعدلات التعجيزية بالمرحلة الثانوية واختبارات القدرات العامة في المفاضلة بين الطلبة لعدم قدرتها على توفير مقاعد بالتخصصات الحيوية مما يحرم ذوي المعدلات المرتفعة والمطابقة للمعايير الدولية من الالتحاق بأقسام الكليات الحيوية بحجة امتلاء المقاعد ليصبح مصير أغلبية هؤلاء الطلبة في تخصصات تهدر أوقاتهم، وتسلب شبابهم، وتصنع منهم مشاريع عاطلة عن العمل، وتطالب الدولة بعد ذلك بتوظيفهم!

وبما أنني أستاذ جامعي ولدي إدراك تام بتعقيدات وتداخلات هذه المشكلة وتأثيرها السلبي على كل من الطالب والجامعة، سوف أطرح في هذا المقال مجموعة من الحلول العملية التي ستسهم بقبول أكبر عدد من الطلاب والطالبات بالتخصصات الحيوية ووضع حلول للتخصصات التقليدية بعيدا عن فكرة إغلاقها.

اتخاذ القرارات الجريئة

لزيادة الطاقة الاستيعابية للطلبة بالتخصصات الحيوية في جامعاتنا الحكومية لا بد أولا أن تتحرر أغلب هذه الجامعات من الفكر التقليدي القديم الرافض للتغير والذي يعتقد أن الجامعات ليست مسؤولة عن توظيف خريجيها وأن المعدلات يمكن أن تستخدم كمؤشر مقنع يوازن به بين أعداد الطلبة المقبولين وسعة القاعات الدراسية المتوفرة بالكلية ومتوسط عدد ساعات أعضاء هيئة التدريس. هذا النوع من الحلول وإن كان معمولا به في بعض الجامعات على مستوى العالم إلا أنه لا يخدم الخطط التنموية للمملكة في الوقت الراهن خصوصا بعد التطور العلمي والتقني المبهر الذي حققته جامعاتنا في نظم التعليم أثناء جائحة كورونا.

وعليه أرى أن يتم تغيير الطرق الحالية في قبول الطلبة بالتخصصات الحيوية إلى قرارات جريئة ومرنة ووطنية بامتياز، وذلك من خلال استفادة الجامعات من جميع إمكاناتها التعليمية والمادية والبشرية وإشراك قياديين من فئات أعضاء هيئة التدريس الشابة لتقديم حلول تقنية وتنظيمية سريعة وفعالة لرفع الطاقة الاستيعابية للقبول بما لا يؤثر على مخرجات التعليم. فمن غير المعقول أن نمنع طلابنا وطالباتنا ذوي المعدلات المرتفعة من الالتحاق بالتخصصات الحيوية بسبب محدودية المقاعد بالوقت الذي يشغل وظائفها بالمملكة وعلى رأسها الطب مختصين أجانب غالبيتهم حاصلين على شهادات من جامعات بدائية تتبع لدول لا تقدم حتى الحد الأدنى من جودة التعليم.

كما أن المعدلات لم تكن يوما هي من تحدد العباقرة والمتميزين من الطلبة بل يجب إعطاء الفرصة لذوي المعدلات المرتفعة «حسب معايير القبول الدولية للالتحاق بهذه التخصصات»، ومن ثم قياس مستواهم الأكاديمي واستبعاد من لا يثبت جدارته. فالجميع يتفق على أن المعدلات المرتفعة يجب أن تكون أحد المعايير المعتمدة للالتحاق بالتخصصات الحيوية خصوصا العلمية منها للمفاضلة بين الطلبة ولكن لا أحد يتفق على أن تكون المعدلات التعجيزية معيارا لحل الإشكاليات الإدارية والتعليمية التي تحد من الطاقة الاستيعابية لتلك الجامعات رغم امتلاكها حلولا بديلة.

الاستفادة من الموارد المتاحة

الاعتماد على الموارد المتاحة بالجامعات الحكومية ولو بشكل مؤقت سوف يوفر عليها الجهد والمال ويساعد بشكل فعال على زيادة أعداد الطلبة بالتخصصات الحيوية. ومن الحلول المؤقتة وغير المكلفة للجامعات دمج الكليات أو الأقسام التي تقدم برامج تقليدية غير حيوية واستخدام منشآتها لصالح كليات أو أقسام أخرى حيوية، بحيث يكون هذا الدمج لمدة زمنية محددة تعتمد على متطلبات سوق العمل ومدى توفر البدائل المناسبة.

كما قد يكون نظام العقود الجديد الذي يجدد سنويا وأقرته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مؤخرا لأعضاء هيئة التدريس أحد الحلول المؤقته لتغطية نقص أعضاء هيئة التدريس في حال أقرت الجامعات زيادة الطاقة الاستيعابية في التخصصات الحيوية. تقسيم العملية التعليمية إلى فترتين صباحية ومسائية والتعاقد مع أعضاء هيئة التدريس الحاليين بكلا الفترتين بأجر إضافي قد يعتبر أيضا حلا قابلا للتطبيق في سبيل تزويد سوق العمل باحتياجاته من أبناء وبنات الوطن.

إعادة هيكلة الأقسام التقليدية

ويركز هذا الحل على إعادة هيكلة الأقسام التي تقدم برامج تقليدية غير حيوية بدون المساس بأقسامها الأكاديمية. وتبدأ عملية إعادة الهيكلة من وجهة نظري في السماح فقط للأقسام التابعة للجامعات ذات الإمكانات العالية والمتميزة أكاديميا بالاستمرار بتقديم برامج البكالوريوس بالإضافة إلى برامجها الأخرى كالدبلومات والدراسات العاليا وتشجيعها على فتح مسارات بينية جديدة أو تعديل مساراتها الحالية لتلبي متطلبات سوق العمل. فعلى سبيل المثال، يمكن لقسم المناهج وطرق التدريس في أحد كليات التربية أن يقدم مسارا بينيا أو بديلا عن مسار طرق التدريس التقليدي، بحيث يركز على دمج طرق التدريس بالتكنلوجيا والنظم الذكية كالتعليم الالكتروني والتعليم عن بعد، بالإضافة إلى التعليم الافتراضي باستخدام الأجهزة المحمولة والتطبيقات الذكية المختلفة.

أما الأقسام الأخرى التي تقدم برامج بكالوريوس تقليدية غير قابلة للتعديل فيمكن إيقاف برامجها للبكالوريوس وتوجيهها لتقديم خدمات أخرى أكثر فائدة لسوق العمل مثل الدبلومات المهنية والدورات التدريبية المساندة أو برامج الدراسات العليا والدراسات العلمية والاستشارية المدفوعة؛ فالتركيز على هذه الخدمات والبرامج من قبل هذه الأقسام سوف تعود بالنفع العلمي على المستفيدين بسوق العمل وبالنفع المادي على تلك الأقسام وجامعاتها؛ فهذا الحل يجعل من هذه الأقسام كيانات علمية فعالة تعيد لها أمجادها وتاريخها إن كانت تابعة لجامعات عريقة أوتعطيها ثقلا علميا متميزا إن كانت تتبع لأحد الجامعات الناشئة. كما يمكن لهذه الأقسام أن تلعب دورا محوريا بمجال التطوير والجودة خارج محيط الجامعة في حال قدمت خبراتها في مراقبة جودة أداء الشركات الخاصة المحلية أو الدولية التي تتعاقد معها القطاعات الحكومية المختلفة. 

والجدير بالذكر أن الجامعات العريقة والمتميزة علميا وعلى رأسها جامعة الملك سعود ذات الثقل العلمي الأبرز على المستوى المحلي والدولي هي من يبادرعادة بإعادة تقييم برامج البكالوريوس في التخصصات غير المطلوبة بسوق العمل وإيجاد حلول وطنية بديلة بينما مازالت كثيرا من الجامعات الناشئة تفتح القبول في هذه التخصصات على مصراعيه مما يستدعي ضبط هذه التباين من قبل وزارة التعليم ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.

التخصصات المزدوجة (Double Major)

تعتبر التخصصات المزدوجة أحد الحلول التي لا تقل أهمية عن ما ذكر في الحد من التخصصات التقليدية غير الحيوية. وفي التخصصات المزدوجة، يقوم الطالب بدراسة تخصص آخر بجانب التخصص الرئيس ليصبح لدى الطالب تخصصان مترابطان بالمجال العام ومختلفان بالتخصص الدقيق. وتطبق كثيرمن دول العالم المتقدم كالولايات المتحدة الأمريكية نظام التخصص المزدوج لفتح آفاق علمية ووظيفية أوسع لطلاب وطالبات مرحلة البكالوريوس. فعلى سبيل المثال، قد يصعب على خريج اللغة العربية الحصول على وظيفة بشكل سريع ولكن قد يكون توظيفه أكثر سهولة في حال درس الإعلام كتخصص فرعي ليصبح بذلك مؤهلا لوظيفة معلم لغة عربية أو كاتبا صحفيا أو حتى مقدم برامج متميز بفصاحة لسانه.

وقد يكون نظام التخصص المزدوج في رأيي أكثر فعالية مع التخصصات غير التربوية بدلا من إلزام خريجيها بماجستير تربوي كشرط لالتحاقهم بمجال التدريس الذي أقرته أو تدرس تطبيقه وزارة التعليم حاليا.

إن جميع الحلول المطروحة في هذا المقال سوف تسهم بشكل فعال في تقليص الاعتماد على التخصصات التقليدية ورفع نسبة خريجي التخصصات الحيوية التي لا أعتقد أن ارتفاعها أمرا مقلقا بل اعتبره صحيا وحيويا لعدة أسباب من أهمها الطلب المتزايد والمستمرعلى هذه التخصصات من قبل سوق العمل، وإمكانية اعتماد الخريجين على أنفسهم والعمل لحسابهم الخاص في حال لم يتحصلوا على وظائف مناسبة كون تخصصاتهم تتميز بالطابع الحرفي إن صح التعبير، بالإضافة إلى سهولة حصول خريجي هذه التخصصات على قروض وهبات سواء من القطاع الحكومي أو الخاص مما يمكنهم من فتح مشاريع خاصة بهم مثل إنشاء مراكز طبية أو تجميلية أو لياقة بدنية أو حتى مكاتب استشارات ومحاماة، وغيرها من المشاريع التي يمكن شغلها وقيادتها من قبل خريجي هذه التخصصات.

وفي النهاية أود أن أشير إلى أن المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين ومتابعة دائمة من لدن سيدي سمو ولي العهد -حفظهما الله- أبهرت العالم في التحول السريع والجاد نحو قيادة العالم في التنمية، والابتكار، والذكاء الاصطناعي مما يستدعي القطاعات بشكل عام والجامعات بشكل خاص أن تناغم خططها مع هذا التوجه لكي تلحق بالركب الذي باتت وتيرته تتسارع يوما تلو الآخر لتكون جامعاتنا كما عهدناها سباقة في نهضة هذا الوطن العظيم.

Dr_Talsalhi@