محمد الأحمدي

الفلافل اللندنية ذات النكهة النواسية

الثلاثاء - 09 نوفمبر 2021

Tue - 09 Nov 2021

ما إن بدأت الحضارة العربية تنتشر بين الأمم في القرن الثاني الهجري مع بداية تأسيس الدولة الأموية، وتوسع سلطتها على الأقاليم خارج الجزيرة العربية حتى بات يلاحقهم مصطلح البداوة أو التعصب للغتهم أو ثقافتهم الخالصة.

وربما هذا شيء من التعبير عن عدم رضا البعض ممن دخل تحت حكمها في تلك الفترة التي سادت فيها الخلافات، والثورات، والصراع السياسي المستمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى سقوطها، وتكوين دولة أخرى في بغداد. ومما شاع آنذاك من الحجج التي استخدمت لتأليب الرأي العام نحو الأمويين بأنهم يجالسون الفساق، والمغنين، وينشرون المجون، وهذه شعارات ثورية في أصلها لتأليب الرأي العام، واستغلال العاطفة الدينية لدى المجتمع.

وما أن تحول الأمر إلى بني العباس، واستقرت الخلافة في بغداد وعلا شأنها، وبدأت تزدهر الدولة، وتتألق حضارتها، وينتشر العلم في كافة جوانب الفنون التي بين أيدينا اليوم من التراث والحضارة حتى عادت الصراعات الفكرية والمذهبية مرة أخرى مستخدمة ذات الأسلوب التأليبي نحو الدولة.

لكن رغم ما يردده مؤلبو الرأي العام حول العصر العباسي إلا أنه شهد ازدهار العلوم، وتأسست فيه الفنون، وتطور التعليم بما عرف آنذاك بالعلوم النقلية كعلم التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والنحو، الأدب، أو العلوم العقلية كعلم الهندسة، والفلسفة، والطب، والكيمياء، والفلك، والفنون الموسيقية.

وظهرت هذه الحركة العلمية واضحة في تنوع العلماء التي باتت شاهدة إلى اليوم على التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي حينما رعت الدولة وشجعت الإبداع والتميز، أمثال مالك وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، ومسلم، وأبو داوود، الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والخليل، وأبي الأسود، وسيبويه، والأصمعي، والكسائي، وأبو نواس، وأبو تمام، والبحتري، وابن الرومي، وأبو العتاهية، وعبد الحميد، والجاحظ، وابن حيان، وكوهين العطار، وعمران بن الوضاح في الرياضيات، والبلخي في علم الفلك، والقائمة تطول.

جرني إلى هذا الحديث صانع الطعمية (الفلافل) في لندن حينما بادرني بنقاش حاد دون سابق معرفة بيننا، وربط جدله بما أشيع حول العصر العباسي من تدن مجتمعي، ليحاول أن يلقي اللوم على مملكتنا الحبيبة، وما تشهده من نهضة هذه الأيام في رعاية وتشجيع كافة أطياف المجتمع، ودفعهم للتميز نحو التأثير العالمي بقيمهم، ومواهبهم.

أبو نواس الطفل اليتيم غير العربي، الذي يشبه حاله حال طفل مشرد في حانات أفقر أحياء لندن، عاش حالة البؤس والشقاء في طفولته، سواء من حرمان الأب، أو تحمل الأم هذه الفتاة الفارسية، مشقة العمل غير المتفق مع قيم المجتمع، ليجلب لها ما تقتات عليه، إلى أن أصبح لديه لسان عربي مبين يعبر به في بلاط الحكام، ودواوين المثقفين، وساد بموهبته في ظل دولة استطاعت الموازنة بين فئات المجتمع، وأتاحت لهم حرية العمل، وممارسة الأنشطة، والتعبير عن الرأي، دون خوف. وهذا الذي أجده في دولتنا اليوم في تنمية المواهب في كافة المجالات ليتميزوا بقدراتهم التي لم يرها بائع الفلافل (العربي المهاجر).

أبو نواس، حكم عليه، وعلى مجتمعه من خلال جزء من شعره، الذي وصل لصاحب الفلافل، واستخدمه لتشويه حقبة زمنية كاملة، لا بل أسقطه على مجتمع نشأ بعده بألف ومئتي سنة. وتجاهل أن الشاعر تعلم القرآن، والفقه، والحديث، وفن التعايش في ظل الدولة آنذاك. بل تجاهل ازدهار الإنتاج العلمي في زمنه في جميع المجالات العلمية والأدبية التي ما زالت تنير الفكر الإنساني في الشرق والغرب.

وقبل هذا تجاهل سماحة الدين الذي لم يتهجم على نشاط أم أبي نواس، أو يقوم بحرق متجرها، أو إيقاف أبي نواس ذاته، رغم بروز عمالقة الفقه، والحديث في ذلك المجتمع. إنها ليست دعوى لنشر الرذيلة؛ فقيمنا تدعو للفضيلة، وتحث عليها، لكنها نظرة من جانب آخر للمسألة التي طرحتها حول وطني.

الحكم على مجتمع من منظور واحد غير منصف دائما، والرغبة أن تكون المجتمعات ملائكية أمر غير فطري. الاختلاف حقيقة، والتباين في الحياة واقع، والمفارقات في الممارسات الحياتية شيء ملموس، ودور الدول دفع كافة الأطياف للإبداع، والتميز، والتعايش في ظل الأمن والعدل، وهذا أجده في وطني وقيادته، وعهدتهم عليه.

أما يقول القاضي عياض: كلانا رأى قمرا، ولكن، رأيت بعينها ورأت بعيني.

أليس هذا منطق قاضي خالط مجتمع الأندلس متعددي الثقافات؟ تمنيت أن أسمع منك رأي مثقف تصالحي نتج من تجربة مخالطتك للمجتمع الغربي منذ ثلاثين سنة، أو أن انخفاض مبيعات الفلافل جعلك تلوم مجتمعي.

alahmadim2010@