خالد الحمدان

المريض النفسي بين العلاج والشعوذة

الاثنين - 27 سبتمبر 2021

Mon - 27 Sep 2021

منذ أن وجد الإنسان، في عصور أزلية بائدة، وهو يفكر ويشعر ومن ثم يمارس سلوكا ناتجا عن تلك العلاقة الثلاثية المعقدة بين مكونات العقل والوجدان والسلوك، وبالطبع كان يفرح ويحزن، يتأمل ويتألم، يمرض ويصح.

ومنذ وجوده في هذا الكون الفسيح وهو يحاول جاهدا معرفة كنهه، وأسرار خلقته (جسدا ونفسا)، كما حاول مرارا تفسير العديد من الظواهر الكونية وآلية حدوثها وأسبابها ومآلاتها، كالشمس والقمر والبرق والرعد وغيرها.

وكان يحاول بإلحاح الوصول إلى إجابات شافية لكل تساؤلاته المستمرة بل والملحة، وجعل سبيله الوحيد إلى تلك المعرفة حواسه الخارجية، مرورا بعمليات داخلية عقلية آلية متشابكة ومعقدة تستقبل مدخلات الحواس وتنتهي بمخرجات معرفية وثقافية تتراكم بمرور الزمن.

وحين شعر الإنسان البدائي بضآلته وقلة خبراته ومعرفته مقابل تلك الظواهر الكونية الضخمة، أحجم عن عزمه القديم لتتبع أسرارها ومعرفة حقائقها، وانكفأ على ذاته الإنسانية تأملا وتساؤلا وحيرة، وبدأ بتساؤلاته حول ماهية جسده وطبيعته وتكوينه، واندهش أمام مشاعر الحزن والفرح والغضب والملل التي تتناوبه بين حين وآخر، وأعجزه المرض الجسدي حينا وشتته المرض النفسي أحيانا، ولم يجد بدا من أن يجد إجابات وحلولا لكل تساؤلاته تلك.

إلا أن إنسان ذلك العصر وما تلاه من عصور لاحقة -لا تقل مدتها الزمنية عن آلاف السنين- انشغل في تلك الفترة السحيقة من الزمن بغريزة البقاء، وصارع من أجلها - بكل ما أوتي من قوة - الوحوش والزلازل والفيضانات وكل ظواهر الطبيعة العاتية والمدمرة.

وفي المقابل اندهش وتملكته الحيرة أمام ظواهر كونية أخرى رائعة وملفتة كالشمس والقمر والمطر والزرع وغيرها، وفي نهاية الأمر لم يجد بدا من أن يتكيف بالتدريج وبشكل آلي مع ما لم يستطع صراعه أو مقاومته.

ونظرا لمحدودية خبراته ونقص معلوماته والتراكم البسيط لمعرفته آنذاك فقد كان تفسيره لما حوله غالبا يرتبط ببيئته وما يشاهده ملموسا أمامه، أو ما يظنه كذلك، بالإضافة إلى ما يعتقد أنه أعمق من أن يصل إليه بمعرفته البسيطة فينسبه إلى المجهول وإلى عالم الغيب.

وسوف أركز هنا على المرض النفسي وتفسير الإنسان له على مر العصور، إذ فسر الإنسان القديم كل أمراضه النفسية بل والجسدية -على حد سواء- على أساس غيبي، فنسبها إلى الجن وقوى خارقة غير مرئية، وحاك حول ذلك الأساطير والحكايات التي تداولها الناس جيلا وراء جيل إلى أن اعتقدوا بقوتها ويقينها، بل وتطور الأمر إلى أن أصبحت تلك الأساطير عقائد وأديانا مغلفة باليقين المتوهم عند بعض الشعوب.

وليس ذلك لعدم امتلاك الإنسان الأول لقدرات عقلية تمكنه من الفهم والتمييز والاستنتاج، فهي موجودة خلقة على المستوى المادي الفسيولوجي منذ أن خلق الله الإنسان، لكنها قاصرة على مستوى العمل والتفعيل الميكانيكي الوظيفي، سواء كان ذلك بسبب سوء استخدام من الإنسان ذاته أو بسبب قلة وضعف التراكم المعرفي والثقافي لتلك الحقبة البعيدة من الزمن.

وحيث كانت أسباب الأمراض النفسية تنسب إلى الجن والشياطين والأرواح الشريرة فقد كان العلاج مرتبطا بشكل كبير بالتعامل مع تلك الأسباب، لمحاولة شفاء المريض، وإن تعذر ذلك يتم التخلص منه ومن الشياطين التي تلبسته بأي شكل مهما بدا ذلك عنيفا.

وكان من أبرز وسائلهم العنيفة في العلاج حرق المرضى بالنار وهم أحياء لضمان التخلص من الأرواح الشريرة كما يعتقدون، وأحيانا استخدام آلات حادة ومدببة لإحداث ثقب في الجمجمة لتخرج منه تلك الأرواح، وغيرها الكثير من الأساليب التي تتسم جميعها بالألم والتعذيب والضرب وإزهاق الأنفس، وهي موثقة في المتاحف النفسية العالمية،وفي الكثير من أدبيات علم النفس التاريخية.

واستمر الحال على ذلك لفترة زمنية غابرة وممتدة اتسمت بإقصاء المرضى النفسيين ونفيهم وتعذيبهم، بل وقتلهم للتخلص من المرض، والتنصل من مسؤولية علاجهم وأهون الأمر اعتبارهم وباء معديا يجب الابتعاد عنه قدر المستطاع.

حتى ظهر من سموا بالفلاسفة في أماكن ومدد زمنية مختلفة ومتعاقبة تقدر بآلاف السنين، إلا أنه ولأسباب تتعلق بإهمال التدوين والكتابة ضاعت الكثير من الآراء والمعلومات القيمة حول النفس البشرية لأولئك الفلاسفة والحكماء، إلى أن جاء العصر اليوناني الذي اتسم بالتدوين والتوثيق، ووصل إلينا الكثير من بدايات المعرفة الإنسانية الخام والبسيطة حول الإنسان جسدا وروحا.

ومن أشهر فلاسفة العصر اليوناني أفلاطون وتلميذه أرسطو، حيث أشار أفلاطون إلى نظرية التناسخ وقسم النفس إلى 3 أقسام، النفس العاقلة ومركزها الرأس وهي مسؤولة عن التفكير وتخص الإنسان فقط، والنفس الغضبية ومركزها الصدر ومسؤولة عن الانفعالات الإيجابية كالشجاعة والصبر والكرم، والنفس الشهوانية ومركزها البطن وهي مسؤولة عن إشباع الشهوات المادية كالأكل والشرب والجنس ويشترك فيها الإنسان مع الحيوان.

ثم ظهر أرسطو الذي اتفق مع أستاذه أفلاطون بشكل تقريبي حول تقسيماته للنفس البشرية، كما أنه ترك كتابا يسمى (النفس) ويعتبر أول مصنف حقيقي ظهر في علم النفس، وسوف استكمل تطور التعامل مع المرض النفسي تشخيصا وعلاجا خلال حقب تاريخية متعاقبة ومناطق جغرافية مختلفة وصولا إلى العصر الحديث في مقالات قادمة بإذن الله.

dkhalidalhamdan@