محمد علي الشاعري

من فيتنام إلى العراق فأفغانستان الكابوي لا يستزرع بيئة حاضنة، ولا نصيرا شاكرا

الاحد - 29 أغسطس 2021

Sun - 29 Aug 2021

‏‏تفردت أمريكا بأنها عند دخولها أي بلد تجعل كل أهله أذله، وتدكه دكا ولا تبني فيه طوبة، وتشيع فيه الفوضى، وتمزقه شر ممزق، قرأنا عن ذلك في فيتنام، وعاصرناه في العراق، ونراه اليوم مرأى العين في أفغانستان، وبسبب سلوك هذا الكاوبوي الجاف والمشين عانت الأراضي التي تحتلها من خلو النصير والبيئة الحاضنة لأفكارها عند المغادرة، فتقع فريسة لأعدائها هي وحلفاؤها، فكما لم تجد أمريكا في العراق بسبب عبثها بيئة حاضنة تشكرها، ونصيرا موثوقا تسند له إدارة البلد بعد خروجها، فسلمته لإيران، ها هي تفشل على مدى عشرين عاما في زراعة بيئة حاضنة لها في أفغانستان تسند لها الحكم عند خروجها، فاضطرت -وهي صاغرة- إلى تسليم كابل (المفتاح) لطالبان.

‏هذا السلوك الأمريكي المشين ليس له سابقة منذ عصور الاستعمار، فأي دولة عظمى تحتل دولة أخرى تحرص أن تترك خلفها بعد خروجها بعضا من الذكرى الحميدة كمشاريع صحية أو تعليمية أو عدالة قضائية واجتماعية أو توظيف للفقراء.. إلخ، والهدف من ذلك أن تكون تلك الخدمات بمثابة ذكرى أو تعويض غير مباشر مقابل ما استنزفته من خيرات الأرض بعد خروجها كدولة احتلال؛ ‏فحتى السوفييت لايزال لشيوعيته البائدة موالون حتى اليوم في أصقاع المعمورة.

‏وفي هذا الإطار سوف آتي على ذكر مثالين بسيطين عشتهما؛ ‏ففي عدن وجدت قبل سنوات رجلا مسنا وسط حي فقير يعيش الكفاف، كان واضحا عليه من هندامه ونضارة وجهه أنه لا يعاني من تأمين حاجياته اليومية من مشرب ومأكل وملبس ومواصلات.. إلخ.

‏وبتجاذب أطراف الحديث مع هذا المسن وجلسائه عرفت أنه كان موظفا رسميا مع بريطانيا في الميناء أيام استعمارها، ومع خروجها مما كانت تسميه بالجنوب العربي منحت هذا المسن هو ومن هو في سنه راتبا تقاعديا يستلمونه بالجنيه الاسترليني حتى اليوم من سفارة (قنصلية) إنجلترا في عدن دون انقطاع!

‏ومما أذكر أني سألته: هل سبق وانقطع راتبك (الإنجليزي) ياعم!؟

‏فقال: والله العظيم يا ولدي إنه في الوقت الذي تنقطع فيه رواتب موظفي اليمن الذين على رأس العمل الشهر والشهرين، لم يسبق وأن انقطع راتبي أسبوعا واحدا (رواتب التقاعد في نظامهم بالأسبوع وليس الشهر).

‏أما المثال الآخر، فعقب نهائي مباراة كأس العالم بين فرنسا والبرازيل عام ١٩٩٨م والتي صادف وشاهدتها في إحدى العواصم العربية الكبرى، فأدهشني ليلتها هدير ونزول سكان الحي عن بكرة أبيهم كبارا وصغارا من الجنسين إلى الشوارع والميادين يهتفون بفرح عارم بفوز فرنسا زيدان بكأسها، وبما أن المشهد كان لافتا لي وعكس ما كنت أعتقد من أن غالبية العالم مع البرازيل وستنام المدينة بهدوء، وقليل منهم مع فرنسا من أجل عيون زيزو، ولن يكون احتفالهم بالشارع لافتا، فرأيت أنه كان لزاما علي من باب الفضول نزول الشارع والاستفسار لماذا فرنسا!!!؟

‏ولم تكلفني الإجابة أن أغوص كثيرا في الزحام، فعلى بعد بضعة أمتار من باب الفندق توافدت علي الإجابات (إنها فرنسا: إنها الأم الحنون!!) وخاصة من قبل (الختيارية) الذين عاصروا استعمار فرنسا لبلادهم!!

‏هاذان مثالان بسيطان جدا على أن المحتل بأشياء بسيطة قد يستبقي له بيئة حاضنة رغم قتامة فعله المشين كمستعمر، وهو ما تفتقده أمريكا التي تتصرف كجرافة لا تبقي ولا تذر، فلا أرض تشهد لها ولا حليف يلوي عليها.

‏وهنا يجدر بي التوقف عند ثلاث نقاط ليس استطرادا وإنما اضطرارا كي نزيل احتمال اللبس.

‏فأولا: لست بصدد الحديث عن عطايا الخونة والعملاء، فليس هناك من هو أكثر صرفا من أمريكا على عملائها.

‏وثانيا: أنا هنا لا أنزه فرنسا فاستعمارها من أسوأ ما عرفته البشرية، يكفي للدلالة على بشاعته أن فرنسا أول ما تدمر لغة ومعتقد سكان المستعمرات بعكس الاستعمار البريطاني مثلا الذي يكتفي بأخذ خيرات الأرض ويترك السكان وشأنهم، وهذه ليست شهادة لبريطانيا، وإنما مقارنة خاطفة بين أشر استعمارين بائدين لايزال يؤنب ضمائر مقترفيه.

‏وثالثا: لست هنا بغافل عن أن بعض الحنين لفرنسا يعود في جانب كبير منه إلى النكاية والمكايدة السياسية من باب التعريض بحكم (القومجية والبعثية) الذين نكلوا بالبلاد التي استلموا حكمها بعد انكفاء المستعمر لدرجة تمني تلك الشعوب المقهورة على يد ذوي القربى الحاكمة عودة المستعمر.

‏وكل ما كان يهمني وسط كل ذلك هو استنباط الشاهد الشعبي البسيط على أن الذكرى الحميدة -ولو في الحدود الدنيا- تبقي شيئا من الوصل يمكن الاستناد عليه مستقبلا كبيئة حاضنة ونواة لبناء علاقات قادمة بعدما يبرد لهيب الاستعمار المستعر في قلوب الأحرار.

‏الكابوي فقير في هذه تماما؛ فاللعنات التي تودعه أكثر من لعنات استقباله.