بندر الزهراني

الجامعة «الفشينيستا» وأخواتها

السبت - 21 أغسطس 2021

Sat - 21 Aug 2021

الموضة الدارجة بين الجامعات المحلية في السنوات الأخيرة هي موضة الظهور في التصنيفات العالمية بأي طريقة، ومهما كان الثمن، حتى لو كان ذلك على حساب جودة المخرج التعليمي، المهم أن تظهر هذه الجامعة أو تلك في التصنيف العالمي للجامعات، فيقال هذا إنجاز عظيم وغير مسبوق، ويجير لهذا المسؤول أو ذاك، والإشكالية أننا لا نسأل كيف ظهرت الجامعة في التصنيف؟ ولا إلى متى ستظل ظاهرة فيه؟ وهل فعلا ظهورها يستحق منا كل هذا العمل إن كان هناك من عمل؟

وإذا ما عدنا للماضي القريب فإننا سنجد أن هذه الموضة أول ما ظهرت للعلن كانت بعد فترة وجيزة من ظهور التصنيفات الدولية لأول مرة في مطلع الألفية الجديدة، وقد خلت من الجامعات المحلية، وضج الإعلام آنذاك متعجبا ومستنكرا خلو قائمة التصنيفات من جامعاتنا، بالرغم من الحرص والرعاية المشمولة بالدعم المالي اللامحدود الذي تحظى به الجامعات من قبل الدولة حفظها الله!

رئيس إحدى الجامعات الناشئة في مداخلة تلفزيونية له قبل أيام ذكر أن جامعته دخلت هذا العام تصنيف «شنغهاي» للمرة الأولى في تاريخها، ويرى بذلك أنها أصبحت من أعرق الجامعات العالمية، حيث إنها جاءت ضمن أفضل 2% من الجامعات على مستوى العالم، ثم ذكر في معرض حديثه بعض مزايا تصنيف «شنغهاي» ليؤكد للناس أن هذا التصنيف معتبر، وأن له استقلالية تامة، ولا إشكال لدينا أن يفرح رئيس هذه الجامعة أو غيرها، وكل من ينتسب لها، فنحن لسنا ضد أفراحهم وابتهاجاتهم، ولا ضد النجاح والتميز الحقيقي.

وإن صحت الأقاويل بهذا الإنجاز -فبلا شك- أنه شيء رائع، ومثير للدهشة، ويدعونا للافتخار خاصة نحن أولئك المتتبعون للشأن الأكاديمي، ففي غضون سنوات قليلة -عددها لا يتجاوز أصابع اليدين- تحولت هذه الجامعة من جامعة ناشئة لا تكاد تبين إلى جامعة عريقة في العالمين! لا بد وأن هناك وصفة سحرية «ابتلعتها» الجامعة فتبدلت أحوالها هكذا سريعا أو أن هناك أحجية أو لعبة غامضة، وتحتاج تفسيرا وتوضيحا.

وقبل أن نتعرف على الوصفة السحرية وأسرار اللعبة الغامضة، لا بد وأن نشير إلى عوائد هذا الإنجاز المعنوية والمادية بغض النظر عن صدقيته وحقيقته، وربما يتساءل البعض منا قائلا: قد علمنا العوائد المعنوية للجامعة ولرئيسها ولأعضاء هيئة التدريس فيها ولطلابها، ولكن يا ترى ما هي العوائد المالية جراء هذا المنجز الكبير؟ أول عائد مادي هو الاستغناء عن بدل الجامعة الناشئة ما دام أنها أصبحت من أعرق الجامعات، وهذا سيوفر لخزينة الدولة مبالغ مالية كبيرة يمكن الاستفادة منها في مجال آخر من مجالات التعليم، والعائد الآخر هو الاستغناء عن الابتعاث الخارجي خاصة للجامعات التي هي خارج محيط الـ2% الذي نوه عنه رئيس الجامعة!

في تصنيف «شنغهاي» خمسة مؤشرات يبنى عليها الترتيب العام للجامعات؛ (1) عدد خريجي الجامعة من الذين حصلوا على نوبل أو فيلدز؛ (2) عدد الأساتذة من الذين يعملون في الجامعة وقد حصلوا على نوبل أو فيلدز، وكل الجامعات العربية دون استثناء خارج هذين المؤشرين ما عدا جامعتي القاهرة والإسكندرية في المؤشر الأول، على اعتبار أن نجيب محفوظ ومحمد البرادعي وأحمد زويل قد حازوا على جائزة نوبل في الأدب والسلام والكيمياء؛ (3) عدد الأبحاث المنشورة في مجلتي Science و Nature؛ (4) عدد الباحثين الأكثر اقتباسا؛ (5) عدد الأبحاث المضمنة في شبكة العلوم WoS، والملاحظ أن جامعاتنا المحلية كلها تعمل على حصد النقاط في المؤشرين الرابع والخامس فقط!

في الواقع أنه ليس لدى جامعاتنا من مبررات غير الزعم بأن النشر المتزايد لديها سببه يرجع لتكوين المجموعات البحثية التي تضم باحثين دوليين ومحليين، وإذا ما نظرنا للأبحاث المنشورة فالغالب أنها ليست محلية خالصة إن لم تكن كلها أجنبية المولد والمنشأ، فالباحث الدولي هو من يقدم أبحاثا علمية أصيلة رصينة، ويتقاضى عليها مبالغ مالية مجزية شريطة أن يشرك معه أسماء لباحثين محليين، بالإضافة لعنوان الجامعة، وبذلك تضمن الجامعة نقاطا كثيرة في هذين المؤشرين!

هب أن جامعاتنا المحلية تعمل على المؤشرين الرابع والخامس في تصنيف «شنغهاي» وبالكيفية التي ذكرنا، ما الإشكالية في ذلك؟ ولماذا نحن دائما ما نتطرق لهذا الموضوع بحساسية عالية، ونحذر منه؟ الجواب ببساطة: لأن هذه الطريقة لا تعكس واقعنا، ولا تخدم الباحث المحلي، ولا توطن للبحث العلمي، وكل ما نشاهده من إنجازات إنما هي إنجازات وقتية، لا تدوم، وليس لها ثمرات حقيقية، وما بريقها إلا للاستهلاك الإعلامي، لا التشجيع على المنافسة والتحدي، ونقدنا المستمر لهذه الحالة لا يعني الإساءة للباحث المحلي، ولا التقليل من شأنه، بقدر ما هو محاولات لتصحيح المسار بما يخدم قضيته، ويسهم في رفع مستواه، وبما يعظم الاستفادة من الموارد المالية الممنوحة له ولقطاع البحث العلمي.

الظهور في قوائم التصنيف العالمي للجامعات العريقة يفترض أن يعكس المكانة الحقيقية لها، ويفترض أن يكون حافزا لها على المنافسة والتحدي، لا مجرد ظهور شرفي أو كظهور «الفشينيستات» المزيف والمؤقت، أي نعم قد يغضب البعض من نقدنا الصريح، وحديثنا المتكرر والممزوج بالشفافية والوضوح، ولكن لا بأس، فالنقد الهادف صحة للعقول، وهو شيء عظيم لا يستحقه إلا العباقرة كما يقول سلفادور دالي!

drbmaz@