عبدالله الأعرج

وداعة الله .. طبت حيا وميتا

الاحد - 09 مايو 2021

Sun - 09 May 2021

في صباح كل اثنين كان أبي علي الأعرج ينتظر مقالي الأسبوعي ببالغ الشوق ويناقشني حول محتواه، وحين أتأخر في إرساله إليه كان يتصل بي أو يرسل مستفسرا عن سبب ذلك..

مقال اليوم هو المقال الذي لن تقرأه يا أبي ولن تسألني عنه؛ لأنك رحلت عنا تاركا لنا الدنيا بما فيها، وقلوبنا يعتصرها جبال راسيات وأمواج متلاطمة من الألم والشوق والحنين والأنين..

لابأس، سأحدثك يا أبي عن هذا المقال؛ لأنني أعلم أن نفسك الطاهرة تجلس في مكان جميل وستشعر به وستنتظره، وستسعد به كما كانت تفعل دوما وهي بيننا..

الناس الذين عرفوك يا أبي أموات بعدك، وأنت حي! نعم هذه هي الحقيقة! لم أر في وجوه محبيك بعد رحيلك سوى هول المصاب وعظم الفجيعة ولوعة الفقد! لا نعلم من يعزي من؟ ومن يواسي من؟ ومن يطلب من الله أن يربط على قلب من؟ الكل بعدك مصاب، والكل بعدك جريح! اللهم صبرا من عندك وجبرا من جميل حلمك ولطفك..

سأخبرك يا أبي بما قالوا عنك بعد رحيلك؛ لأنني أعلم أن رضى الناس بالنسبة لك قبس من رضى الله، وسعادتهم مقدمة لديك على سعادة نفسك! قالوا يا أبي «إن قلبك جميل تماما كجمال وجهك، وكروعة هندامك وحلو منطوقك»... نعم فأنت في قلوبهم وأعينهم قبلة الجمال! أقسم لك يا والدي أنني سمعت كثيرا منهم يقولون «ما أجمله!، وما ألطفه!، وما أحلاه!»، كثير منهم قالوا «إنهم أحبوك وهم لم يروك»، وكثير أيضا كانوا يبكون وهم يتلون علينا أحزابا من كتاب طيبتك ولطفك وبراءتك..

سائقك يا أبي الذي كان يأخذك إلى المسجد، والذي كنت تشاركه إفطارك وتمازحه لتخفف عنه غربته عن أهله بكى بنفس القدر الذي بكى به أبناؤك وبناتك وأقاربك! لا فرق يا والدي في مشاعر الناس بعد رحيلك فالكل موجوع، والجميع مفجوع، والقريب تماما كالغريب.

الجيران بعدك يا أبي في مآتم وأحزان، يتحدثون عن مكانك في الصف الأول من مسجد الحي، ويبتسمون وهم يتذكرون تجربتك اليتيمة للأذان وكيف كان صوتك حينها جميلا ورخيما وكأنك مؤذن قد اعتلى المآذن منذ سنين.. يتحدثون يا أبي عن إصلاحك لذات بينهم، وحرصك على جمع شملهم، واقتطاعك من مالك ووقتك وجهدك لمشاركتهم أحزانهم وأفراحهم..

زملاؤك وأصدقاؤك الذين شاركتهم العمل التربوي والتعليمي على مدى 35 عاما فجعوا برحيلك وبكوا كما لم يبكوا من قبل! هل تذكر قصصك مع أبناء الأيتام في المدارس؟ هل تذكر شهامتك ونخوتك مع المعلمين حينما كنت وكيلا للمدرسة؟ هل تذكر كيف كنت توصل بعض الطلاب صباحا مع أبنائك للمدرسة على مدى أعوام ثم تعيدهم بعد انقضاء اليوم الدراسي؟ هل تذكر اجتماعاتكم المسائية التي كان حضورك إليها يكسوها جمالا وأريحية وسعادة؟ لقد ذكروا كل ذلك يا والدي وهم يبكون!.

وآه مما تركته في قلوب أقاربك من حب وشوق وحنين! هلع يعلو الوجوه، وألم يعتصر القلوب، ودموع لا تجف من المآقي.. هل تعلم يا والدي أن كثيرا منهم وضعوا صورتك كخلفية في أجهزتهم المحمولة؟ وهل تعلم أن الأطفال بكوا بنفس الحرقة التي بكى بها الكبار؟ وهل تعلم أن الجميع تبتلوا بالدعاء لك، والصدقة عنك، وتقديم القربات لله طلبا في رحمته وفضله الذي يرجونه لك.. لله كم يحبونك وكأنهم يعيدون إليك استحقاقا لا يقبل التأجيل ودينا لا يقبل التعطيل..

أما آل بيتك يا أبي فلا تسل فقد تفطرت قلوبنا عليك.. وكيف لمثلك ألا تنفطر عليه قلوبنا وقد عشنا معك كل لحظة ننهل فيها من مدرسة لطفك وعطفك وحلمك وكرمك وجمالك وشهامتك وأبوتك..

كم كنت تحب جلوسنا معك وأنت توزع نظراتك الحنونة بالتساوي بيننا، وكم عشقت التفافنا حول مائدتك وأنت تغدق بحنيتك علينا، وكم استمعت لمناجاتنا لك بما يختلج في صدورنا من هموم، لله كم كنت صديقا رائعا قبل أن تكون أبا مطاعا، وكم كنت أمانا حينما تتقلب الظروف، وكم كنت متفائلا عندما لا تلوح في الأفق بوادر الانفراج، وكم كنت أجمل سمير وأعز سند ونصير.

كم كان يرضيك القليل من كل شيء.. فابتسامة عابرة ممن أغضبك تذهب ما في نفسك، وهدية لا تتجاوز بضع ريالات تعني لك الكثير، ووجبة متواضعة تعدل في ميزان قناعتك ألف وليمة.. تمقت الخصام، ويمرضك الشقاق وتبغض الفرقة والابتعاد..

دعني أطيب خاطرك يا والدي بأمر ربما لا تعلم عنه لأنك كنت نائما طويلا قبل رحيلك، وهو أن الله قد قبضك إليه في شهره المعظم، واختصك بعشره الأواخر، وزاد في فضله عليك بقبضك في ليلة الحادي والعشرين منه وكأن حسن الخاتمة قد حيكت لك، فأي فضل اختصك به الرحمن وأهداه إليك بفضله المنان، وحسبنا أن تكون منعما يا أبي في أعالي الجنان.. تلك سلوانا وذاك جميل عزائنا ومنانا.. وداعة الله، طبت حيا أبي وطبت ميتا ولن ننساك.

dralaaraj@