عبدالله الزرقي

هياطيولوجيا!

الخميس - 11 فبراير 2021

Thu - 11 Feb 2021

التقيا بعد ثلاثة عقود من الفراق وقد كسا الشيب شعر رأسيهما. وبعد عناق شديد وتعليقات ساخرة لبعضهما وقهقهات ملأت أرجاء المكان، كان حديثهما حديث الأصدقاء النابع من عقل خمسيني وروح عشرينية تستحلب ذكريات الماضي الجميل، حديث صادق فطري كما عهدا نفسيهما قبل الفراق المحتوم الذي جعل كلا منهما يضرب في الأرض باحثا عن رزقه.

سأله: ما الذي يحدث هذه الأيام؟ فغربتي لثلاثين عاما جعلتني أشعر بأني لا أنتمي للمكان ولا للزمان، فأنا أشعر بشعور أهل الكهف الذين غابوا عن الوعي لقرابة ثلاثمئة عام.

سأله صاحبه: وما الذي جعلك تشعر بهذا الشعور مع أن شعورك هو نفس شعوري مع اختلاف المكان فقط؟

قال له يا صديقي هناك من يتباهى بماله وسيارته وحتى زوجته أمام العالم والسوشيال ميديا، وهناك من تخرج مفاتنها وتعرضها لترينا المقاس المثالي لتلك الترهلات الشحمية المقززة، وهناك من هو فقير معدم يتباهى بما ليس لديه فقط ليشعر بالامتنان من أنه موجود، ويبدو أن الظاهرة والعدوى قد انتشرت وتسربت وتغلغلت إلى نفسيته وإلى من حوله وهي تنذر بأن هناك خللا سيكولوجيا في المجتمع أو ما شابه ذلك.

الكل يتسابق لعرض ما لديه حتى وإن كان سروال جدته المخطط والمعروف بخط البلدة كي يقول هذا تراث جدتي. مفتاح يكسر في الباب فتعرضه إحداهن فيتم فتح مزاد بآلاف الريالات. شخص يستعرض التهام قطعة لحم همبرجر بـ 1400 ريال، وهو مبلغ بإمكانه صنع وليمة لثلاثين شخصا.

شخص يدعو نفرا قليلا على مائدة عليها بعير محشي خروف وداخل الخروف نعامة ولا أعلم ما بداخل النعامة وكأن النِّعَم دائمة لا تزول. أشخاص تافهون ليس لديهم محتوى وليس لديهم فكر وعديمو الفائدة لديهم أتباع بالملايين يقتدون بتفاهاتهم.

قال لصاحبه: هل تذكر حينما كنا نذهب للمطار ونحتسي كوب قهوة بعشرة ريالات ونحن ننظر إلى المسافرين العائدين إلى أهلهم لنغذي أبصارنا بفرحتهم وهم يستعدون للقاء أحبابهم، لنستجلب سعادتهم التي ارتسمت على وجوههم وننقل هذا الأثر الإيجابي إلى نفوسنا؟

هل تذكر حينما كنا في التسعينات ننزل إلى البطحاء بالرياض ونعيش الدور بأننا في بومبي أو كراتشي لكثرة العمالة من تلك الأقطار في تلك البقعة. ونتخيل أنفسنا خارج الحدود وحينما نرى شخصا يرتدي ثوبا وشماغا نفرح ونقول هناك سعودي يزور بومبي مثلنا ونحن نضحك ونطلق العنان لخيالنا.

كانت تلك الأحلام جزءا من ذاكرتنا التي سعدنا بها للحظات.

كانا يعملان بدون كلل أو ملل وكانت هوايتهما متعددة في فنون الكتابة الشعرية والأدبية والقصصية والموسيقية، لكنهما لم يحظيا بتلك الهالة الإعلامية التي حصل عليها الفارغون من المحتوى والموهبة.

نظرا إلى بعضهما وكل منهما يستذكر كيف أن العيب له معايير عندهما، وكيف أن جيلهما لم يكن يسمح لهما بالتعدي على ثوابت المجتمع، ولم يخرقا ثوابت المنظومة الاجتماعية التي تربيا عليها.

شعرا بكثير من الأسى لأن حرية اليوم هي إسفاف من البعض وتجهيل للمجتمع من البعض الآخر. في عهدهما لم يكن هناك إنترنت ولم يكن الانتشار إلا لمن هو ذو توجه وهوى أيديولوجي معين سواء جهة اليمين أو الشمال. اعتدالهما كان سببا في اعتزالهما للحياة العامة، خوفا من الانخراط في عواقب لا تحمد عقباها.

دار سؤال مشترك بينهما: كيف سيخرج الأعور الدجال ولديه أتباع كثيرون يتبعونه وهم يعلمون أنه الدجال؟

كانت الإجابة حاضرة بأن ما يحدث اليوم من أتباع التافهين سيجيب عن السؤال الصعب: من سيتبع الدجال؟

الهياط يسير بسرعة 240 كلم في الساعة، والتلون بصور غير واقعية أولى درجات الكذب لفتح الباب أمام الأعور الدجال وانسياق الآلاف خلفه دون أدنى تعب أو تأثير.

قال له صاحبه: لا تغضب يا صديقي فنحن في زمن تبدل فيه كل شيء حتى معيار الأخلاق والمروءة، فالهياط هو المجد والهياط هو الشهرة والكل يدعو لرفع شعار كن مهايطا ترتق، وكما ذكرت يا صديقي نحن في عصر الهياطولوجيا.

unzorgi@