ماجد السلمي

الطبيعة المتحولة للقوة الناعمة في السياسات الدولية

الاحد - 07 فبراير 2021

Sun - 07 Feb 2021

يشكل مفهوم القوة في العلاقات الدولية أحد أبرز المحددات الرئيسية للتفاعل بين الدول على المستوى الدولي، وتعد أداة أساسية في تمكينها من القدرة على صناعة التأثير في سياساتها الخارجية. ارتبط مفهوم القوة بالنظرية الواقعية في العلاقات الدولية، من حيث اعتبارها وسيلة لتحقيق الأمن والمحافظة على الوجود. لذلك تولي الدول أهمية كبرى للقوة، وتتصرف بواقعية وعقلانية في سعيها لامتلاك مصادر القوة التي تمنحها القدرة على حماية سيادتها واستقلالها، وتحقق أمنها وتحافظ على مصالحها على المستوى الدولي، كما يرى بذلك الواقعيون من أمثال ميكافيلي وهوبز ومورغانثو بأن القوة هي الوسيلة والغاية النهائية التي تعمل الدول للوصول إليها في العلاقات الدولية.

ولكن التغير الذي طرأ في طبيعة النظام الدولي وتحوله من الجيوسياسي إلى الجيواقتصادي، أحدث مقاربات جديدة لمفهوم القوة في العلاقات الدولية، ولم يعد المفهوم محدودا في القوة العسكرية. فقد أفرز النظام الدولي أشكالا أخرى وأنواعا جديدة للقوة، نظرا لطبيعة التحول في العلاقات الدولية، ولا سيما في المعلوماتية والعولمة. ساهم قيام الأمم المتحدة في هذا التحول، فلم يعد بمقدور الدول استخدام القوة العسكرية، ويحظر ميثاقها استعمال القوة أو التهديد بها، إلا في إطار ما يتعلق بالدفاع المشروع، أو في إطار ما يقرره مجلس الأمن لدواعي حفظ الأمن والسلم الدوليين.

هذا التحول قاد الدول لبلورة أنواع أخرى للقوة، وذلك للمساهمة في تقوية مواقفها في الصراعات والمنافسات الدولية، للوصول إلى النتائج المنشودة، بما لا يتعارض مع القانون الدولي. زاد اهتمام الدول في هذا السياق العالمي للسياسة الدولية في ظهور أنماط أخرى للصراع والتنافس، من خلال استخدام أدوات مشروعة وغير ملموسة، للترويج للقيم والمنظومات الثقافية والأفكار، بهدف كسب المشاعر والعقول، وتعزيز القدرة على التأثير في الآخرين واستمالتهم وإغرائهم، عبر عدة وسائل منها السينما والنجوم المشاهير والعلامات التجارية الكبرى، ومن خلال استضافة المناسبات الرياضية العالمية، والوساطة الدولية وحل النزاعات، والمساعدات الدولية والتدخلات الإنسانية، وغيرها من الوسائل التي تساهم في الترويج للدول على المستوى العالمي.

أحد هذه الأنواع للقوة هي القوة الناعمة، التي ارتبط مفهومها بجوزيف ناي أحد رواد المدرسة الليبرالية، والذي عبر عنها بأنها القدرة على التأثير في الآخرين واستمالتهم عن طريق الإقناع والإغراء. حيث يرى ناي بأن طبيعة النظام الدولي تغيرت، ولم تعد القوة العسكرية مشروعة الاستخدام، كما أن الطبيعة الدولية ساهمت في زيادة كلفة استخدام القوة العسكرية، وأننا لم نعد نعيش في قرون ميكافيلي الذي نصح الأمراء في إيطاليا بأن يكون المرء مخوِّفا أكثر مما يكون محبوبا، فالأفضل للعالم اليوم «حسب ناي» أن يكون مالكا لهاتين الصفتين، كسب القلوب والعقول مهمة في عالم اليوم.

ولكن القوة ليست مطلقة، وهي مفهوم متغير غير ثابت، مرتبط بالسياق والنطاق الذي تعمل فيه، ومحكومة بالإطار الزمني، والظروف المحيطة بها، والمنافسين لها. فما يعتبر قوة في زمن ما، فإنه لا يعتبر قوة في زمن آخر، بناء على تغير المعطيات والظروف. وما يعتبر قوة في مكان ما، فإنه لا يعتبر كذلك في مكان آخر، نظرا لتواجد قوى أكبر منها في ذات المكان. فالقوة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى، وبالإطار الذي تعمل فيه.

كما أن هناك تغيرا طرأ على أنماط القوة نتيجة بروز قوالب جديدة للتفاعل الدولي مثل التكنولوجيا والأفكار والأيديولوجيا العابرة للحدود، والتي ساهمت في تحول القوة باتجاهات وأساليب أخرى تهتم بالجوانب الثقافية والفكرية والأيديولوجية، والتي صاحبها صعود في الاهتمام بمبادئ الموضوعية والمصداقية، وارتفاع أسهم التعاون الدولي وقوة التحالفات، وبالقيادة والمبادرات المرتكزة على تعزيز قيمة مكافحة الأفكار الهدامة وحماية الأمن والاستقرار العالمي.

في زمن ما، كانت القيم الأمريكية طاغية، تلهم الأفكار، وتصنع المشاعر والأحلام. ركبت المنتجات والشركات الأمريكية الموجة، واستغلت القيم التي فُتِحت لها الأبواب والنوافذ العالمية. الجينز مثلا، كان أيقونة أمريكية، تم التسويق والترويج له باحترافية عالية، ارتداه الكبار والصغار والأغنياء والفقراء ورؤساء الدول والعمال وربات البيوت وعارضات الأزياء. جسّد الجينز قيم المساواة، والقيم الأمريكية المرتبطة في ذلك العصر، وهو ما جعل الناس يتسابقون على ارتدائه كرمزية للانتماء لثقافة عصرية وقيم مثلى.

ماكدونالدز هو الآخر، استلهم النموذج الأمريكي في الإدارة والابتكار. غير ماكدونالدز مفهوم المطاعم إلى نموذج مبتكر يمثل طريقة الحياة الأمريكية العصرية، التي تعتمد على كفاءة الإنتاج وتقليل التكاليف والسرعة.

ولكن القيم الأمريكية فقدت بريقها ورونقها، ولم تعد قيما أمريكية خالصة، وانتشرت في العالم بشكل كبير، وتساوت غالبية الدول في تطبيقها، ولم تعد تحظي بذات القدر من التأثير الذي كان في السابق، ولذلك تراجع الترويج عبر قيم الحرية والمساواة والديمقراطية، وتضاءلت درجة تأثيرها بشكل كبير، بناء على السياق والطبيعة الدولية المعاصرة.

ساهم التغير في طبيعة المجتمعات والوعي البيئي العالمي بدرجة كبيرة خلال العقد الماضي إلى التحول في أنماط القوة والتأثير، وظهرت موجة جديدة من القيم ذات الأبعاد الكونية. ومع هذا التغير في السلوك والوعي البشري، أصبح العديد من الدول والشركات تتجه بشكل أكبر نحو برامج الاستدامة، ولعلنا نلحظ استثمار كثير من الدول والشركات في ربط ممارساتها بمفاهيم برامج التنمية المستدامة والطاقة الخضراء والصديقة للبيئة.

أظهر استطلاعا دوليا بأن كثيرا من العملاء يختارون المنتجات التي تعتمد في عملياتها التشغيلية على المنتجات الصديقة للبيئة. ونلاحظ أيضا بأن كثيرا من العلامات التجارية تسعى لإبراز عملياتها التشغيلية التي تحقق معايير الاستدامة، والمواد الإنتاجية الصديقة للبيئة كقيمة مضافة، وفي إظهار دورها الإنساني في التصدي للتحديات الكونية والبشرية، والمساهمة في تقديم الحلول لتدارك مشاكل التدهور البيئي والانحسار في التنوع البيولوجي وتغير المناخ، وتبديد مخاوف الناس المتعلقة بالبيئة، بهدف صناعة صورتها الذهنية الإيجابية، وتشكيل تفضيلات الآخرين، وخلق علاقة حب وولاء مع المستهلكين.

التغير والتطور طبيعة كونية. والتطور التكنولوجي يساهم في تسارع التغير في طبيعة حياة البشر والتجمعات البشرية حول العالم. فها نحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، وستكون عقول الشعوب مسرحا جديدا للصراعات الدولية. سوف تصبح الوسائط الرقمية هي المؤثرة في سلوكيات وأفكار البشر، وسترتبط المجتمعات والأفراد بطرق مختلفة، وسيكون البشر حلقة في دائرة الأدوات الرقمية والآلة، وستقوم الآلة بالقيام بعمل الكثير من الأعمال البشرية. سوف تساهم الثورة الصناعية الرابعة في تشكيل سرديات جديدة، وأنماط معيشية مختلفة، وستختلف قناعات وأفكار وأيديولوجيات البشر ومخيلاتهم، مما سوف يخلق سياقات ونطاقات جديدة لقوى الجذب والتأثير.

@Majed_Al_Sulami