عبدالله الأعرج

حينما يغير السؤال وجه العالم!

الاحد - 24 يناير 2021

Sun - 24 Jan 2021

لم يمتدح الله أحدا من عباده بقدر يشبه مدحه للمتفكرين والمتبصرين وأهل العقل والتدبر، وهي دلالة واضحة وصريحة على أن الفكر والعقل والتساؤل مجمع الجمال ومنطلق استمرارية تطور الجنس البشري بكل احتياجاته وتطلعاته.

ولأن التساؤل العقلاني والمنطقي سمة جميلة لاكتساب المعرفة، فقد تساءلت الملائكة وتساءل الأنبياء، وكذلك الفلاسفة والعقلاء والعلماء والقادة والأدباء، ووردت تلك التساؤلات في كثير من القصص وربما تطور بعضها ليصنع معرفة معتبرة غيرت من وجه البشرية، ومضت قدما بالتطور على صعيدها.

التساؤل الجيد الذي يعوّل عليه صنع معرفة لا بد أن يكون لذيذا وفاتحا لشهية الإجابات، يجب أيضا أن يكون مصدرا للجدل المنطقي الجميل الذي لا يمل منه الناس مهما أجابوا عنه، لعظم ما يكتنزه من عمق ومعرفة وفهم وتحد للأفهام والألباب المستنيرة.

وما زال التاريخ والتراث يؤكدان لنا أن هنالك أسئلة كبيرة صنعت معرفة هائلة، خذ مثلا موضوع النظرية النسبية لألبرت إنشتاين، التي بدأت من تساؤله الكبير: هل يمكن للإنسان أن يسبق الضوء؟ وإذا سبقه فهل سيبقى مضيئا أم إنه سيتجمد؟ وهل يمكن تسريع الزمن؟ لتظهر بعد كل هذه التساؤلات النظرية النسبية التي غيرت وجه العالم خلال القرن المنصرم.

ومثل ألبرت، تساءل الطبيب الفرنسي لينيه رينيك عما يمكن أن يكون بديلا عن كشف ملابس السيدة التي رفضت ذلك للاستماع لدقات قلبها، فظهرت سماعة الطبيب، ومثلهما قصة الإنجليزي بيرسي سبنسر الذي كان يعمل في الرادارات ووجد ذات ليلة شديدة البرودة أن قطعة الشوكولاته التي يحتفظ بها في جاكيته قد ذابت أثناء مروره أمام صمام الموجات القصيرة ليكون ذلك مكان تساؤله واندهاشه ويصل بموجبه لاختراع جهاز المايكرويف لتسخين الأطعمة.

ومع هذه القصص القصيرة يبقى من المهم التأكيد على أن قصص التساؤلات العميقة التي أنجبت أمهات الاختراعات لن تنتهي. الجدير فعلا بالتمحيص هو فلسفة الأسئلة نفسها، ومدى مناسبتها لتقديم معرفة موثوقة يمكن الاتكاء عليها في تنامي وتنمية الوجود الإنساني، أو بلغة أخرى: متى يكون السؤال منصة مناسبة لإطلاق المعرفة؟ وهل السؤال دوما مصدر للمعرفة؟ وهل يمكن للسؤال أن يحتمل عدة إجابات وربما مناوشات؟ وهل تعدد الإجابات مدح أم قدح في طبيعة التساؤلات؟

ولأن الإجابة عن كل هذا محال في هذه المساحة، فسأكتفي بالقول إن ثمة مميزات إيجابية يجب أن تتوفر في أي سؤال حتى يكون سؤالا نافعا، ومنها:

أن يكون السؤال نابعا عن نقص في المعرفة، أو طلبا لمزيد من الإيضاح، أو تصحيحا لمفهوم قائم. السؤال الجيد أيضا يجب أن يكون لذيذا بكل ما تحمله المفردة من معنى، وذلك من خلال ما يحمله من رغبة في الإجابة عنه، والنظر إليه من زوايا متعددة، وتحدي الفكر المطروح حوله، والرغبة في الاستزادة من إجاباته المتباينة والمتشابهة. السؤال الجيد كذلك يصاغ بطريقة بسيطة، ويقدم بعبارة لطيفة، ويتجنب الشخصنة والذاتية والمحاصصة المقيتة، وتكون منتهى غايته المعرفة ولا شيء غير المعرفة!

وبالمقابل فإن الأسئلة الباهتة تكون عادة مكررة، مألوفة، لا تضيف للمشهد المعرفي ثقلا معتبرا، ولا يسيل لهاب لعاب المتحاورين والمتناقشين، وقد تصاغ بطريقة استفزازية لغرض الاستفزاز لا لغرض البحث المعرفي الرصين وربما نظمت بطريقة عشوائية تجعلها في منطقة بين التساؤل والإجابة بحيث يلتبس على المتلقي طبيعة ذلك الخطاب!

أختم بتذكير نفسي وإياكم بنمط تساؤلي ثقيل العيار، ورد في نهاية سورة الغاشية في التنزيل الحكيم «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت)، وهي أسئلة كبيرة تفتح باب العقل والبحث والتجريب على مصراعيه بأجمل لغة للوصول للإجابة الخالدة حول خالق الكون ومقدر الأقدار سبحانه. وأستحضر في ذات السياق مقدار التشويق في حديث سيدي رسول الله حينما سأل صحابته «أتدرون من المفلس؟» لينطلق الفكر بعدها في مسارات من الجمال وصولا لتعزيز قيم إيمانية وإنسانية باذخة فاخرة تم تأكيدها بدءا من سؤال يقاسمها ذات الجمال.

dralaaraj@