أحمد محمد الألمعي

الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي وجائحة كورونا في 2020

السبت - 02 يناير 2021

Sat - 02 Jan 2021

كانت سنة 2020 صعبة على الجميع بسبب جائحة كورونا، ولا زلنا نتعامل مع تبعات هذه الجائحة الطبية، لكن هناك بصيص أمل بأن هذه السنة وبوجود اللقاحات سنشهد بإذن الله انفراجا على صعيد التحكم في انتشار هذه الجائحة والتغلب على تبعاتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

إحدى تبعات هذه الجائحة، التي لم تلق في رأيي ما يكفي من الانتباه وتسليط الضوء، هي التبعات النفسية التي نتجت عن الحجر الصحي المطول والقلق والخوف المحيط بهذا المرض لعدة أسباب، أهمها أن كثيرا من الجهود ولأسباب منطقية وجهت للسيطرة واحتواء جائحة الكورونا. ونتيجة لذلك عانى كثير من المرضى النفسيين، بل ونشأت أعراض نفسية لدى كثير من الناس الذين لم يعانوا من أي أعراض قبل بداية هذه الجائحة. وقد زاد من تبعات هذه الجائحة الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي، التي كان لها تأثير كبير.

وعلى الرغم من كل ما يشهده عصرنا من تغييرات على صعيد العدالة الاجتماعية، وكل الجهود الحثيثة التي تُبذل في سبيل تحقيق المساواة وتشجيع تقبل الآخر، إلا أننا ما زلنا نرى في مجتمعاتنا عددا من التصرفات المقلقة تجاه من يعاني من الأمراض النفسية، وتؤدي مثل هذه التصرفات إلى تشكيل وصمة عار وخلق العنصرية تجاه أولئك الذين يعانون من هذه الأمراض.

ما هي الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي؟

هي المعتقدات والتفكير السلبي والنمطي الخاطئ وغير الموضوعي تجاه كل من يعانون من أي مرض نفسي أو سلوكي. ومنشأ هذه الوصمة قد يكون ثقافيا اجتماعيا، كأن يكون جزءا من ثقافة المجتمع، وقد يكون بسبب الصورة السلبية التي تعرض في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والأفلام التي في كثير من الأحيان تهدف إلى الإثارة الإعلامية وجذب انتباه الجماهير، دون التنبه للآثار السلبية لنشر مثل هذه الصورة النمطية السلبية عن الاضطرابات النفسية.

وتتمحور كثير من هذه الأفكار السلبية التي تطلق عادة على جميع المصابين بأي نوع من المرض النفسي بدون تمييز بصرف النظر عن طبيعة هذا المرض بالنظرة لهم بأنهم معاقون وغير قادرين على العمل والعطاء والمساهمة في بناء المجتمع، وقد يكون هناك خوف غير مبرر من احتمال وجود سلوك عدواني وعنيف تجاه من حولهم.

كيف تظهر اجتماعيا؟

تأخذ هذه الوصمة عدة أشكال، تشمل السلوك الاجتماعي السلبي، مثل معاملتهم باحتقار واشمئزاز، وقد تأخذ شكل التمييز ضدهم في المعاملة والوظائف وغيرها من فرص الحياة، أو أشكال أكثر سوءا مثل السخرية منهم واستغلال ضعفهم، حتى المعاملة العنيفة والضرب.

وهناك أشكال أخرى للوصمة الاجتماعية للمرض النفسي حتى من قبل بعض العاملين في القطاع الصحي، ومنشؤها خلفياتهم الثقافية والمعتقدات الخاطئة التي يحملونها نحو المصاب بالاضطراب النفسي، إذ يبدو أن وصمة المرض النفسي لا تظهر فقط عند العامة من غير المختصين، وإنما يمكن لها أن تظهر حتى عند بعض المتخصصين النفسيين والممارسين الصحيين. ومن مظاهر هذا النوع من الوصمة: تحميل الشخص المسؤولية الكاملة عن إصابته، الاعتقاد بعدم إمكانية التعافي، المبالغة في تقدير الآثار السلبية لأعراض الاضطراب النفسي على الشخص المصاب ومن حوله، المبالغة في إشراك المريض في الخطة العلاجية بما يتجاوز قدراته.

ما هي آثارها؟

تشمل آثار الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي: العزوف عن البحث عن علاج والالتزام به، انعدام التفاهم من قبل أفراد العائلة، الأصدقاء، أو الزملاء في العمل، تراجع الفرص المتاحة للشخص المصاب، سواء كانت فرص عمل أو دراسة أو فرص المشاركة في النشاطات الاجتماعية أو حتى فرصة الحصول على سكن مناسب، التعرض للتنمر والعنف الجسدي أو المضايقات والإزعاج، الصعوبات المادية نظرا لأن أغلب برامج التأمين الصحي لا تغطي علاج الأمراض النفسية، فقدان الثقة والأمل في أن تتحسن الأمور أو في أن يتمكن الشخص المصاب نفسه من التعافي والتغلب على مختلف التحديات التي تواجهه.

ما مدى انتشار الأمراض النفسية؟

هل سبق لك أن أصبت بالأرق؟ أو عانيت من مشاكل تتعلق بمدى ثقتك بنفسك أو تقديرك لذاتك؟ هل شعرت خلال فترة ما بالضغط والتوتر الشديدين واستمرت حالتك لعدة أيام أو أسابيع؟

على الرغم من أنها تبدو مجرد حالات عارضة، إلا أن كل ما سبقَ يُصنف تحت أنواع الأمراض والاضطرابات النفسية، وفي حال استمر أي من الأعراض السابقة لعدة أسابيع فقد تتفاقم لتتحول إلى أمراض أشد خطورة.

وبعيدا عن كل ذلك، يجب توضيح أن تصنيف المرض النفسي يشمل عدة مئات من الأمراض النفسية، وقد تكون بسيطة جدا مثل بعض اضطرابات القلق لدى الكبار والصغار، وتشمل الخوف من الذهاب للمدرسة والاضطرابات السلوكية للأطفال، كما تشمل أيضا اضطرابات بأعراض حادة مثل الذهان الذي يظهر بأشكال مختلفة، بعضها خفيف ويسهل علاجه وبعضها ذو أعراض شديدة ومزمنة.

وقد حقق البحث العلمي في الطب النفسي قفزات كبيرة في مجال التشخيص والعلاج خلال السنوات الخمسين الماضية، وتقدم مجال التشخيص من وصف عشوائي متغير غير مثبت علميا يعتمد بصفة رئيسية على نظرية التحليل النفسي، إلى وضع أسس واضحة وأعراض محددة وعناصر ثابتة للتشخيص، وصفية بالدرجة الأولى بدلائل علمية.

والمتابع لتطور طرق التشخيص يكتشف أن بعض التسميات القديمة التي كانت تستعمل لتشخيص المرضى النفسيين هي أقرب إلى النعت والسخرية منها إلى التشخيص الطبي. كما تم اكتشاف الكثير عن طبيعة هذه الأمراض، بدءا من الخلل في الهرمونات والأسباب الطبية البحتة، مثل اضطرابات الغدة الدرقية التي تسبب أعراض قلق وتقلب في المزاج و جلطات الدماغ كأسباب للاكتئاب والخرف والاضطرابات السلوكية. ثم تطورت أساليب البحث العلمي وقدراتها وأصبحت لدينا القدرة على اكتشاف موصلات ونواقل عصبية في الدماغ بعينها مثل السيروتونين والدوبامين والايبينفرين ودورها الواضح في الاكتئاب واضطرابات المزاج وحتى الذهان، ورغم ذلك لا يزال هناك نواقص ما زالت موجودة في الصورة تمنع اكتشاف علاجات جذرية لبعض الأمراض النفسية، لكن من المتوقع مع التطور في البحث العلمي اكتشاف الكثير، مما يبشر بمستقبل مشرق في مجال التشخيص والعلاج. وهناك البحوث العلمية في علم الجينات في كثير من المجالات الطبية، ومنها الطب النفسي، وتصرف مبالغ كبيرة كمنح لدعم البحث العلمي في هذا المجال لأهميته الكبيرة، ومن المتوقع أن تحدث هذه الأبحاث ثورة خلال العشرين سنة المقبلة.

واستكمالا لحديث البحث العلمي في العلاج النفسي تم الانتقال من استعمال الضرب والتقييد والعزل وإيداع المرضى في ملاجئ للعلاج النفسي مدى الحياة، بوصفها وسائل للعلاج النفسي، وذلك في غياب أي بدائل في أربعينات القرن الماضي، إلى استعمال العلاج النفسي التحليلي لعلاج بعض الحالات، وتم بعد ذلك اكتشاف كثير من أنواع العلاج النفسي والدوائي المختلفة التي ساعدت في علاج الأعراض بدرجة كبيرة.

وبناء على كل ما تقدم يتضح أن الاضطرابات النفسية بشكل عام سببها اختلال في النواقل والموصلات العصبية أو هرمونات، وفي هذا السياق فهي عضوية، ولا تختلف عن أي مرض طبي آخر، وباستعمال تقنيات العلاج الحديث أصبح التحسن في الأعراض بدرجة كبيرة ممكنا، ويعود المرضى إلى ممارسة نشاطاتهم وواجباتهم بشكل طبيعي، حتى في الحالات الصعبة والمستعصية يسهل العلاج المتوفر تحسن الأعراض، بحيث يمكن تأهيل المرضى وتطوير مهاراتهم ليكونوا مستقلين وأعضاء فعالين في المجتمع بطريقة أو أخرى، ويعتمد ذلك على توفير العلاج وطرق التأهيل المناسبة لهم.

كيف نتعامل مع الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي؟

نصائحي لكل شخص عانى من أي من المشاكل التي ذكرتها، ولكل أقاربهم وأصدقائهم ومن يدعمهم:

01 احرص على العلاج: قد تحجم عن الاعتراف بأنك بحاجة إلى العلاج، خوفا من وصفك بالمريض العقلي أو المجنون. لا تدع هذه المخاوف تسيطر عليك وتحول بينك وبين طلب المساعدة، الحصول على العلاج في الوقت المناسب سيضمن لك تشخيص حالتك وفهمها بشكل أفضل، وبالتالي تحديد سبل العلاج، الأمر الذي يقلل من تبعات المرض الذي تعاني منه ومن تداخلاته في حياتك المهنية والشخصية. لا تسمح لوصمة المرض أن تفقدك الثقة بالنفس، فقد لا تأتي وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي من الآخرين وحسب، فربما أنت نفسك تؤمن بأن هذا الاضطراب النفسي الذي تعاني منه هو نقطة ضعف في شخصيتك، أو ينتابك شعور بالخجل والحرج منه، مما يحول بينك وبين طلب العون، وقد تلوم نفسك مما يزيد حالتك سوءا. تذكر دوما أن الاضطراب النفسي مهما كانت درجته ونوعه هو كأي مرض جسدي آخر، يتحسن أو تشفى منه بإذن الله مع العلاج.

02 لا تعزل نفسك عن الآخرين: تجنب العزلة والابتعاد عن أصدقائك وعائلتك، قد تفكر أنه من الأفضل ألا تخبرهم شيئا عن حالتك، لكن تصرفك هذا خاطئ، فمثل هؤلاء الأشخاص قد يكونون مصدر دعم معنوي مفيد للغاية. ليس عليك أن تنشر خبر إصابتك بمرض نفسي للجميع! لكن احرص على إخبار عدد من الأشخاص المقربين منك ممن تثق بهم، حتى يقدموا لك الدعم اللازم عند الحاجة. لا تساوي نفسك بمرضك: أحسن استخدام الكلمات للتعبير عن مرضك أو الاضطراب النفسي الذي تعاني منه، ولا تساوي نفسك بالمرض الذي تعاني منه، فبدلا من القول «أنا مكتئب»، استخدم جملة: «أنا أعاني من الاكتئاب». تذكر: أنت لست مرضك، وإنما أنت تعاني من أعراض أو اضطراب منفصل تماما عنك، ويمكن أن يختفي مع العلاج.

03 انضم إلى جمعيات الدعم: هنالك عديد من الجمعيات والمستشفيات والمراكز المحلية أو الدولية التي تقدم برامج دعم للمصابين بالأمراض والاضطرابات النفسية. اختر من هذه المراكز ما تراه مناسبا لك، واحرص على زيارتها بشكل دوري واحضر الاجتماعات أو الفعاليات التي تعقدها، سواء للتثقيف حول حالتك المرضية أو لتقديم المشورة أو للتعرف على أشخاص آخرين يعانون من مشكلات مماثلة.

04 احصل على المساعدة في مدرستك أو مؤسستك: في حال كنت طالبا في مدرسة أو جامعة وتعاني من اضطرابات نفسية تؤثر على عملية التعلم لديك، تحدث إلى المختصين في مدرستك وحاول في هذه الحالة الاطلاع على البرامج المطروحة في مؤسستك التعليمية التي تدعم مرضك.

ليس هذا وحسب، تذكر أن التمييز ضد الطلاب المصابين باضطرابات نفسية مخالف للقانون، والمدرسون مطالبون بدعم هؤلاء الطلاب دعما تاما، لذا احرص على إخبار أساتذتك بحالتك، فجهلهم بها قد يؤدي إلى إساءة معاملتك أو القيام بتصرفات فيها شيء من التمييز.

05 التعامل مع ظاهرة الوصمة الاجتماعية للمرضى النفسيين وتوفير الدعم النفسي: كن منفتحا على مواضيع الصحة الذهنية، حتى لو كنت بعملك هذا تساعد شخصا واحدا فقط، فذلك يكفي. احرص على التحدث عن الصحة النفسية وأهميتها وضرورتها، سواء كنت في اجتماع مع أصدقائك وأقاربك، أو من خلال مقال تنشره على مدونتك الخاصة أو صورة أو فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي. حاول أن تنشر هذا المفهوم لأكبر عدد ممكن من الأشخاص.

06 ثقف نفسك حول الصحة الذهنية: استغل كل فرصة ممكنة لتثقف نفسك والآخرين حول الصحة الذهنية والاضطرابات النفسية. في كل مرة تسمع فيها حديثا عن هذا الموضوع أو تعليقا سلبيا حول المرضى النفسيين، اسعَ لأن تفهم وجهة نظر المتحدث ومن ثم ناقشه بعقلانية وأوضح له أثر كلامه في زيادة انتشار ظاهرة وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي.

07 انتبه لكلامك: كثير ممن يستخدمون الأمراض النفسية المختلفة كشتائم يطلقونها على الآخرين، إما على سبيل المزاح أو بشكل جدي. لا شك أنك في يوم ما أطلقت على صديقك صفة المجنون أو المتخلف عقليا، انتبه من الآن فصاعدا إلى كلماتك، فمثل هذه العبارات جارحة لأولئك المصابين حقا بهذه الأمراض، وتسهم في زيادة معاناتهم وشعورهم بالعار والحرج من أمراضهم.

08 فكر في الاضطرابات النفسية كما تفكر في الأمراض الجسدية: هل سمعت يوما شخصا يستهزئ بمرض السرطان، أوالسكري أو ارتفاع ضغط الدم؟ بل هل امتلكت أنت الجرأة في يوم ما على فعل ذلك؟ لماذا إذن تستخف وتستهزئ بالاضطرابات النفسية على الرغم من أنها حالات مرضية مماثلة للأمراض الجسدية ولا تقل عنها جدية وخطورة؟

09 تعاطف مع أولئك المصابين باضطرابات نفسية: قد يبدو لك الاستماع إلى شخص مصاب بالاكتئاب، وهو يحدثك عن قصته، أمرا بسيطا للغاية، لكنه مع ذلك يعني لهذا المريض الكثير. احرص دوما على أن تتعاطف مع أولئك الذين يعانون من الاضطرابات والأمراض النفسية مهما كانت بسيطة، ولا تُظهر تعاطفك هذا على أنه شفقة وحزن عليهم، بل كن داعما لهم مستعدا للاستماع إلى قصصهم ومشاعرهم، لأن أثر ذلك على نفوسهم بل وحتى على تماثلهم للشفاء لا يصدق.

10 حارب ظاهرة الوصمة الاجتماعية للمرضى النفسيين: لا تتردد في أن تعبر عن رأيك حول ظاهرة وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي، عبر عن رفضك ومحاربتك لها خلال الاجتماعات والفعاليات المختلفة، فمثل هذا الأمر قد يساعد الآخرين ممن لا يمتلكون الشجاعة الكافية على أن يفعلوا الشيء نفسه، بل قد يساعد المصابين أنفسهم على تقبل إصابتهم بالمرض النفسي، واتخاذ القرار بالحصول على العلاج المناسب.

أخيرا، جاء في الحديث النبوي «تداووا ولا تداووا بحرام».

@almaiahmad