طلال لبان

غازي علي وفيروز وعقدة المال

السبت - 26 ديسمبر 2020

Sat - 26 Dec 2020

من الحماطة وسوق القفاصة في المدينة المنورة نشأ الموسيقار غازي علي، حيث ولد وتربى وتكونت ملكته الشعرية والموسيقية وظهرت ملامحه، توفي والده - رحمه الله - وهو لم يبلغ الخامسة بعد، فتولت أمه تربيته ولم تشعره أنه يتيم، فقد كانت بالنسبة له صديقته وأخته وكل شيء في حياته، وكانت -رحمها الله - مثقفة بالسليقة، علمته القراءة والكتابة، وعندما سمع موسيقى منبعثة من أول راديو يدخل حوش الشام في المدينة المنورة، أبكاه اللحن، الذي كان لموشحات يغنيها الرجال والنساء، فخجل أن يرى دموعه أحد فاختبأ تحت الدرج.

منذ تلك اللحظة شعر أن لديه شيئا من التذوق والإحساس، فبدأت الموسيقى تلعب في رأسه وكان عنده هوس شديد بها، لدرجة أنه لحن وكتب كلمات قبل أن يدرس الموسيقى، وحين لم يكمل دراسته في مدرسة الملك سعود النموذجية، قررت والدته أن يكمل دراسته في القاهرة في معهد الكونسرفاتوار، فأكمل الإعدادية والثانوية مع دراسة المواد الموسيقية من الكونسرفاتوار، ثم أكمل القسم العالي وفيه تلقى دروسا تربوية رائعة، حيث كان تلميذ رياض السنباطي المقرب.

حكى لي ذات مرة أنه تم وضعه في قسم الموسيقى الغربية، ولم يكن يريد ذلك، حتى استطاع إقناعهم بأن يكون في قسم الموسيقى العربية، وأنه فنان قادم من قلب الجزيرة العربية فكيف لا يكون في قسم الموسيقى العربية، ومن شدة ذكائه الموسيقي ونجابته كان مقربا جدا من أستاذه الموسيقار رياض السنباطي، وكان يوصله إلى مقر إقامته في القاهرة.

بنى غازي صداقات قوية مع طبقة الأدباء والمثقفين، فكان يرافق الأديب السعودي الأستاذ طاهر زمخشري دائما، ومن خلاله تعرفه إلى عدد كبير من الأدباء ووجوه المجتمع في مصر، وأكثر من سعد برؤيتهم ومعرفتهم الدكتور يوسف شوقي العالم الجيولوجي وخريج جامعة هارفارد.

لكن من القصص المؤلمة التي مرّ بها الموسيقار غازي علي رحيل أخيه صبري، وقد قصّ علي ذات مرة قائلا: صبري كان له صوت جميل ولكن القدر لم يمهله، ومن الغريب أنه قبل أن يموت في حادث الطائرة أرسل لي صورة، كتب على ظهرها كلمات عجيبة قال فيها: لا تحزن يا أخي فقد أبت إرادة الله إلا أن تفرق بيننا، وبعدها بأيام توفي في السادسة صباحا، وكنت ذاهبا إلى امتحان مبادئ البيانو في المعهد الإيطالي في الرابعة عصرا، فكنت أرى صورته في كل نوتة أعزفها.

في الأخير نختم هذه المقالة البسيطة عن الأستاذ غازي علي بحلم كان يراوده حينما قرأ قصيدة تعبر عن رحيل الحجيج إلى منى من كلمات الشاعر عبدالرحيم البرعي:

يا راحلين إلى منى بقيادِ

هيجتم يوم الرحيل فؤادي

فكم تمنى أن يلحنها للمطربة فيروز، وقام بتجهيز اللحن منذ أكثر من 40 عاما، لكن لعدم توفر المال الكافي لديه للسفر إلى بيروت وعرضه عليها بقي هذا اللحن حبيس الأدراج، فلك أن تتخيل كيف لو تم هذا اللحن من عبقري الأنغام وأستاذ النغم المهذب أكاديمي السلم الموسيقي وصوت الأوطان والنغم الحالم فيروز.

أخيرا، هؤلاء الفنانون السعوديون قدموا لوطننا الغالي الكثير من العطاء والكثير من الألحان الخالدة التي جعلت المواطن عاشقا لأرضه أكثر فأكثر، أتمنى أن يكون لديهم جمعية حكومية ترعى مصالحهم تكون تابعة لوزارة الثقافة، ولا سيما أن أكثرهم في العقد السادس أو السابع من العمر، توفر لهم التأمين الطبي وتساعدهم على إكمال حياتهم بهدوء، فهم من تبقى من القاعدة الثقافية الموسيقية التي نهضت عليها الموسيقى السعودية منذ ستينات القرن الماضي.

@talallabban