مرزوق بن تنباك

سعدى.. امرأة من الصحراء

الثلاثاء - 17 نوفمبر 2020

Tue - 17 Nov 2020

يكتب أحباؤنا الشباب والشابات قصصا وروايات جميلة يتفننون في موضوعاتها ومعانيها وما تناقش من قضايا اجتماعية ومعرفية وثقافية، كان هذا النوع من الأدب إلى عهد قريب شبه معدوم أو قليلا جدا وغير مطروق في الثقافة العامة المحلية، حتى وإن وجدت واحدة أو اثنتان أو ثلاث كتبت منذ زمن بعيد كالبعث والتوأمان والضحية، ثم أطبق الصمت بعد ذلك ومر دهر عليها يشبه السبات والنسيان إلى أن جاءت رواية بنات الرياض وما أحدثته من جدل وضجة كبيرة في المستوى المحلي مع تحول وتغير في الثقافة.

بعدها انهمر سيل العرم بغزارة تشبه الطوفان الروائي والقصصي بكل الأقلام والأسماء، ولا سيما الأقلام النسائية التي تفوقت في الإنتاج الكمي، حتى أثارت كثرة ما كتب من روايات وقصص بأقلام نسائية أسئلة لفتت نظر الدارسين لهذا النوع من الأدب، وشغلت بعض الأكاديميين، ولعل الأستاذ الدكتور صالح الغامدي أهم من تناول هذه الفنون بكل موضوعاتها ومضامينها تحليلا ونقدا ودراسة، حتى صار يصدق عليه القول: لا يفتى ومالك في المدينة.

ومقالي هذا ليس افتئاتا على مقام سعادته وزملائه المتخصصين بفن السيرة والقصة والرواية، وليست هذه الكلمة حديثا عن هذا الفن كله، ولا تقويما له أو دراسة عنه. لكن سعدى صاحبتنا اليوم ليست قصة فنية ولا رواية خيالية ولا سيرة ذاتية، سعدى حقيقة بسند متصل بكامل تفاصيلها وأحداثها وشخص بطلتها سعدى، كتبت بيد حفيدها الأستاذ محمد مسعد المخلفي، وهو أستاذ تربوي مؤلف في التاريخ والأنساب، حتى اسمها حقيقة وليس اسما فنيا كما يحلو لكتاب الروايات إعطاء أبطالهم أسماء فنية.

وعن الأسماء ولأن الحديث يجر بعضه بعضا، فعندما بدأ في المملكة تسجيل الناس قبل ستين عاما ومنحهم بطاقات تعريفية، وجد رجال القبائل حرجا في ذكر أسماء أمهاتهم وإفشائها لموظفي الأحوال، فاختاروا كنية معبرة وجميلة هربا من ذكر الاسم الحقيقي (مستورة)، فصار الموظفون يسجلون مستورة أما لكل منهم، لكن أحد الشباب يعرف القراءة والكتابة وجد اسم أمه مختلفا، وأخبر الموظف باسم أمه الحقيقي وهي فائزة، فشك الموظف بصحة الاسم لأنه يخالف الأسماء الشائعة التي اعتاد عليها، ولم يسجل اسم أمه الحقيقي، حتى وصل الأمر إلى رئيس الدائرة الذي وجد حلا للمشكلة، سعدى وفائزة وليلى أسماء كثيرة وشائعة مع غيرها من الأسماء المحلية في القبائل العربية، ومنهن سعدى موضوع حديثنا.

ومع أن قصتها ليست من نسج خيال الكاتب، لكنها قصة محزنة متحدية لا يكاد يصدقها العقل، بدأت باليتم والفقر والطلاق والترمل، وواجهت أحوالا لا يستطع القيام ببعض فصولها أشد الرجال وأشجعهم، فضلا عن امرأة فرض عليها الزمن أن تعيش بصحراء الجزيرة، وتقطع المسافات الطويلة بين مرتفعات الحجاز ومتاهات صحراء نجد منفردة لا يصاحبها غير عزمها في فترة مرت من الشح والقسوة، لم تستسلم حتى حولت كل عوامل التحدي في حياتها إلى نجاح لم يحققه كثير من جيلها رجالا ونساء، فربت الأولاد ونمت المال وأسست الشركات ولم تمت حتى ذاقت طعم النجاح وعاشت الغنى ورغد العيش.

أكتب هذا المقال لعل شبابنا ذكورا وإناثا اليوم يقرؤون شيئا من الماضي القريب الذي عاشه آباؤهم وأجدادهم، وكيف واجهوا صعوبات الحياة بكل وحشتها، وكيف كانت النفوس العظيمة تتغلب عليها بالتصميم والعمل وحب الحياة، وقد لا يصدق الشباب قصة سعدى، ولهم الحق ألا يصدقوا، فأنا وقد أدركت ذيول ذلك الزمن الذي عاشت فيه سعدى كدت لا أصدق بعض فصول قصتها، ومنها أن تسافر منفردة من أطراف حائل حتى تصل بلادها (خضرة والأكحل) في أطراف رابغ، لا يصحبها غير وحوش الصحراء وذئابها، هذه واحدة ومثلها حالات أشد منها خطورة وقسوة مرت بها سعدى وتغلبت عليها.

كم سعدى مثلها عاشت معها في ظروف مثل ظروفها لم يكتب كفاحها ولم تتح فرصة للأجيال التالية أن تقرأها.

Mtenback@