دلال العريفي

الملل الإداري

الاحد - 01 نوفمبر 2020

Sun - 01 Nov 2020

المكان: أمام مكتب الإدارة. المشهد: إحدى الموظفات مريضة بالسكر تسقط ويُطلب الإسعاف. أقف بقربها وأحرص أن تتحدث إلي، طبعا لا أقول إن الحديث معي سبب لإنقاذ حياتها أو حياة غيرها من البشر، إنما حرصت على ألا تغيب عن الوعي حتى وصول المسعفين.

الغريب أن المديرة كانت تنظر كأنه لا يوجد شخص طريح أو أشخاص مجتمعون، أو لا وجود لإنسان مريض لا يعرف مصيره، مع أن هذا الإنسان هو إحدى الموظفات المميزات لديها! انتظرت وصول الإسعاف بما أوتيت من صبر، فقط لأبدأ استجواباتي.

كانت الاستفهامات كثيرة، والصورة المرعبة للموظفة وهي بين أيدي زميلاتها تربكني جدا وأنا أفترض كل ما قد يحدث لها، أتذكر أني سألت المديرة أكثر من سؤال في ثانية! كيف..؟ وماذا لو..؟ وعدد كبير جدا من أسئلة الـ «لماذا؟» سألتها وأنا أكثر الناس معرفة بكفاءتها وخبرتها وقدراتها.

حسنا، الإجابة التي حصلت عليها بعد عشرات الأسئلة كانت «يا بنت الحلال»! بمد طويل لا أعرف عدد حركاته، هكذا فحسب! وطبعا بنت الحلال الواقفة أمامها ظلت تبحث طويلا عن تفسير مقنع لموقف المديرة! واستمرت التساؤلات: كيف لمدير أن يتعامل بمثل هذه اللا مبالاة العجيبة؟ وماذا حدث لتعاطف الإنسان تجاه الإنسان؟ وهل يمكن أن يصل الأمر بالقائد أن يتفاعل ببرود غير مشهود مع المواقف الإنسانية بفعل السنين في الإدارة؟ وماذا لو تمكن «الإنهاك الإداري» والملل من روح المسؤول؟ هل كان سبب خوفي أني كنت حينها جديدة على الإدارة فحسب، أم إن الإدارة لسنوات يمكن أن تعدم الجانب الإنساني للمسؤول فيتحول إلى كائن جامد الشعور؟

حين أسترجع مثل هذا الموقف، بعد مرور الزمن وتكون أجزاء كبيرة من الإجابة، أستغرب كثيرا من استسلام القائد لحالة الملل من العمل وكراهيته، إذ لا يمكن أن تدار أي مؤسسة ونحن منهكون إداريا أو مكبلون بقيود نفسية تجعلنا غير مهتمين بالآخرين، ولا يقبل والحالة هذه أن ندير أعمالنا بعقلية روبوت يمارس مهام إدارية بحتة ويتعامل مع روبوتات أخرى. الموظفون ليسوا جزءا من أعمالنا، بل هم شركاء في المكان والعمل والنجاح والمعاناة إن وجدت، فلا يقبل أن نتعامل معهم كما نفعل مع الأوراق والأرقام والآلات.

قد يقال - وهذا القول صحيح - إن المدير إنسان أيضا، ويصاب بضغوط توصله حد الإنهاك والملل واللامبالاة، ولا تُكلَف نفسٌ فوق ما تطيق! والحل في هذه الحالة يكمن في الاستشارة والدعم والتفهم ورفع الوعي لدى القائد والاهتمام به، وإدراك أن للقيادة مهام إنسانية أسمى من أن يتم تجاهلها، أو يعلن رسميا أن الطاقة الإدارية انتهت تماما.

نتعرض جميعا لضغوط العمل، ولعل أكثر «المتعرضين» لها هم المديرون والقادة، وتلك الضغوط تكون غالبا صانعة لخبرات وجدارات قيادية عظيمة، لكن هذه الأشياء لا تبرر أن يُترك المدير وحيدا دون دعمه حتى يطوقه الإنهاك الإداري أو يفتك الملل به وبإدارته.

وهنا يأتي السؤال المهم الذي بالإجابة عنه يكتشف الحل: لماذا يصاب المدير بالملل؟ ومتى؟ الإجابات بالتأكيد ستكون مختلفة بحسب خبراتنا ومشاهداتنا، وما أدركت حقيقته في ذلك المكان أنه حين يتم تجاهل المدير ويُحرم المؤازرة والتقدير، ويُمنع من إحداث التغيير ثم يُترك وحيدا في مشاكله الإدارية دون إنقاذه أو إنقاذ ما بقي من طاقته؛ كل ذلك سبب أكيد لحالات الاستسلام التام لضغوط العمل وارتفاع نسبة الملل واللامبالاة في بيئات العمل. وللمدير أن يختار التغيير أو الرحيل بعد أن يسأل نفسه في لحظة صفاء «هل نتلاءم أنا والمكان والمهام وكثير من الناس هنا؟.

@darifi_